الآن لما سنوضّح من العلل. والحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة ، بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك وإن أعطوها ، ولا يستعظمونها في جنب هذه السعادة التي هي مقارنة الحقّ الأوّل. وعلى ما سنصفه عن قريب ، فلنعرف حال هذه السعادة ، والشقاوة المضادّة لها ، فإنّ البدنيّة مفروغ عنها في الشرع.
فنقول : يجب أن يعلم أنّ لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة وخيرا يخصّها ، وأذى وشرّا يخصّها. مثاله : أنّ لذّة الشهوة وخيرها أن يتأدّى إليها كيفيّة محسوسة ملائمة من [الحواسّ] الخمسة ، ولذّة الغضب الظفر ، ولذّة الوهم الرجاء ، ولذّة الحفظ تذكّر الأمور الموافقة الماضية ، وأذى كلّ واحد منها ما يضادّه ، ويشترك كلّها نوعا من الشركة في أنّ الشعور بموافقتها وملائمتها هو الخير واللذّة الخاصّة بها ، وموافق كلّ واحد منها بالذات والحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل ، فهذا أصل.
وأيضا فإنّ هذه اللذّة (١) وإن اشتركت في هذه المعاني ، فإنّ مراتبها بالحقيقة مختلفة ، فالذي كماله أتمّ وأفضل ، والذي كماله أكثر ، والذي كماله أدوم ، والذي كماله أوصل إليه وحصل له ، والذي هو في نفسه أكمل فعلا وأفضل ، والذي هو في نفسه أشدّ إدراكا ، فاللذّة التي له أبلغ وأوفى لا محالة ، وهذا أصل.
وأيضا : فإنّه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما بحيث يعلم أنّه كائن ولذيذ ولا يتصوّر كيفيّته ولا يشعر بالتذاذه ، ما لم يحصل وما لم يشعر به لم يشتق إليه لا ينزع نحوه (٢) مثل العنّين ، فإنّه متحقّق أن للجماع لذّة ، ولكن لا يشتهيه ولا يحنّ نحوه الاشتهاء والحنين اللذين يكونان مخصوصين به ، بل بشهوة أخرى ، كما يشتهي من يجرب من حيث يحصل بها إدراك وإن كان موذيا في الجملة فإنّه لا يتخيّله ، وكذلك حال الأكمه عند الصور الجميلة ، والأصمّ عند الألحان المنتظمة ، ولهذا يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ كلّ لذّة فهو كما للحمار في بطنه وفرجه ، وأنّ المبادي الأولى المقرّبة عند ربّ العالمين عادمة اللذّة
__________________
(١) في المصدر : وإنّ هذه القوى.
(٢) في المصدر : ولم ينزع نحوه.