فتنقلب عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كلّه ، مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحقّ ، ومتّحدا به ومنتقلة بمثاله وهيئته ، ومنخرطة في سلكه ، وصائرة من جوهره ، وإذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى توجد في المرتبة بحيث يصحّ (١) معها أن يقال إنّه أفضل وأتمّ منها ، بل لا نسبة إليها بوجه من الوجوه فضيلة وتماما وكثرة وسائر ما يتمّ بدوام (٢) إلذاذ المدركات كما ذكرناه.
وأمّا الدوام ، فكيف يقاس الدوام الأبديّ بدوام المتغيّر الفاسد. وأمّا شدّة الوصول ، فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله حتّى يكون كأنّه هو بلا انفصال ، إذ العاقل والمعقول شيء واحد أو قريب من الواحد. وأمّا أنّ المدرك في نفسه أكمل ، فأمر لا يخفى. وأمّا أنّه أشدّ إدراكا فأمر أيضا تعرفه بأدنى تأمّل وتذكّر منك لما سلف بيانه ، فإنّ النفس النطقيّة أكثر عدد مدركات وأشدّ تقصّيا للمدرك وأشدّ تجريدا له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلّا بالعرض ، ولها الخوض في بطن المدرك وظاهره ، بل كيف يقاس هذا الإدراك بذلك الإدراك ، وكيف يقاس هذه اللذّة باللذّة الحسّيّة والوهميّة والغضبيّة؟ ولكنّا في عالمنا وبدننا هذين وانغمارنا في الرذائل لا نحسّ بتلك اللذّة إذا حصل عندنا شيء من أسبابها كما أومأنا إليه في بعض ما قدّمناه من الأصول ، ولذلك لا نطلبها ولا نحنّ إليها. اللهمّ إلّا أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتهما من أعناقنا وطالعنا شيئا من تلك اللذّة ، فحينئذ ربّما تخيّلنا منها خيالا طفيفا ضعيفا (٣) وخصوصا عند انحلال المشكلات واستيضاح المطلوبات اليقينيّة (٤) ونسبة التذاذنا ذلك نسبة التذاذ الحسّ بتنشّق روائح المذاقات اللذيذة إلى الالتذاذ بتطفّفها ، بل أبعد من ذلك بعدا غير محدود.
وأنت تعلم إذا تأمّلت عويصا يهمّك وعرضت عليك شهوة وخيّرت بين الظفرين
__________________
(١) في المصدر : بحيث يقبح معها ...
(٢) في المصدر : وسائر ما يتم به إلذاذ ...
(٣) في المصدر : خيالا طفيفا وخصوصا ...
(٤) في المصدر : النفسيّة ...