استخففت بالشهوة ، إن كنت كريم النفس ، والأنفس العاميّة أيضا فإنّها تترك الشهوات المعترضة وتؤثر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تغيّر أو سوء قالة (١) ، وهذه كلّها أحوال عقليّة بعضها أضداد بعضها ، يؤثر على ما يؤثر في أضدادها على المؤثّرات الطبيعيّة ، ويصبر لها على المكروهات الطبيعيّة ، فيعلم من ذلك أنّ الغايات العقليّة أكرم على الأنفس في محقّرات الأشياء ، فكيف في النبيهة (٢) العالية ، إلّا أن الأنفس الخسيسة تحسّ بما يلحق المحقّرات من الخير والشرّ ولا يحسّ بما يلحق الأمور النبيهة ، لما قيل من المعاذير. وأمّا إذا انفصلنا عن البدن وكانت النفس منّا تنبّهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها ولم تحصّله ، وهي بالطبع نازعة إليه إذ عقلت بالعقل أنّه موجود ، إلّا أنّ اشتغالها بالبدن كما قلنا قد أنساها ذاتها ومعشوقها ، كما ينسي المرض الحاجة إلى بدل ما يتحلّل ، وكما تنسي الأمراض الاستلذاذ بالحلو واشتهاءه ، وتميل بالشهوة من المريض إلى المكروهات في الحقيقة عرض لها حينئذ من الألم بفقدانه كفاء ما يعرض من اللذّة التي أوجبنا وجودها ودلّلنا على عظم منزلتها ، فيكون ذلك هو الشقاوة والعقوبة التي لا يعد لها تفريق النار للاتّصال وتبديل الزمهرير للمزاج ، فيكون مثلنا مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف ، أو الذي عمل فيه نار أو زمهرير ، فمنعت المادّة الملابسة وجه الحسّ عن الشعور به ، فلم يتأذّ ، ثمّ عرض أن زال العائق فشعر بالبلاء العظيم.
وأمّا إذا كانت القوّة العقليّة بلغت من النفس حدّا من الكمال يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التامّ الذي لها أن تبلغه ، كان مثلها (٣) الخدر الذي أذيق المطعم الألذّ ، وعرض لحالته أن لا يشتهي ، وكان لا يشعر به ، فزال عنه الخدر فطالع اللذّة العظيمة دفعة ، ويكون تلك اللذّة لا من جنس اللذّة الحسّيّة والحيوانيّة بوجه ، بل لذّة تشاكل الحال الطيّبة التي للجواهر الحيّة المحضة ، وهي أجلّ من كلّ لذة وأشرف. فهذه هي السعادة ، وتلك هي الشقاوة. وتلك الشقاوة ليست تكون لكلّ واحد من الناقصين ، بل
__________________
(١) في المصدر : استقباح أو خجل أو تغيّر أو سوء قالة ....
(٢) في المصدر : .. في الأمور البهيّة العالية ...
(٣) في المصدر : .. مثل الخدر.