الاقبال إلى المعقولات والشعور بها ، ولأجل ذلك لا تلتذّ بتلك المعقولات وإن كانت حاصلة لها ، فإنّها ما لم تقبل إليها لم تجد ذوقا منها ، فلم يحصل لها شوق إليها فلم تلتذّ بالشعور بحصولها لها.
وأمّا شرط الألم ، فمن جهة أنّه قد تقرّر في تلك الأصول أيضا أنّه قد يحصل للقوّة الدرّاكة سبب الأذى والألم ، لكنّها لا تتأذّى منه لحصول عائق منه ، وهذا أيضا حاصل هنا ، فإنّ أضداد الكمالات العقليّة وهي الجهالات بها لما كانت مستمرّة الوجود غير متجدّدة ، وكانت النفس الإنسانيّة مشتغلة بغيرها غير شاعرة بها ، كما أنّها غير شاعرة بتلك الكمالات أيضا ، فلم تكن مدركة لتلك الأضداد ، فلم تكن تتألّم منها. وهذا بيان محصّل مرامه.
وأمّا تحرير كلامه ، فهو أن يقال : ولكنّا في عالمنا وبدننا هذين وانغمارنا في الرذائل الحسّيّة البدنيّة لا نحسّ بتلك اللذّة العقليّة إذا حصل عندنا شيء من أسباب تلك اللذّة لأجل فقدان شرطها كما أومأنا إليه في بعض ما قدّمناه من الأصول الخمسة ، ولذلك لا نطلب تلك اللذّة ولا نحنّ إليها ولا نشتاق إليها. اللهمّ إلّا أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتهما عن أعناقنا ، ونفضنا تلك الرذائل عن جواهر نفسنا ، وشعرنا بتلك الكمالات ولذّاتها نوعا من الشعور ، وطالعنا شيئا من تلك اللذّة ، فحينئذ حيث كان الخلع غير تامّ والنفض غير كامل ، لم ندرك تلك اللذّة إدراكا كاملا أيضا ، بل ربّما تخيّلنا منها خيالا طفيفا ضعيفا ، وخصوصا عند انحلال المشكلات العقليّة واستيضاح المطلوبات اليقينيّة ، ونسبة التذاذنا ذلك إلى الالتذاذ بإدراك حقائق تلك المعقولات والوصول إلى كنهها نسبة التذاذ الحسّ بتنشّق الروائح المذاقات اللذيذة الطيّبة أنفسها ، إلى الالتذاذ بتطفّفها وتخيّلها ، بل أبعد من ذلك بعدا غير محدود غير متناه.
ويشهد بما ذكرنا أنّك إذا تأمّلت أمرا عويصا عقليّا يهمّك ، وعرضت عليك شهوة بدنيّة جسمانيّة ، وخيّرت بين الظفرين ، أيّ الظفر بذلك الأمر العويص والظفر بتلك الشهوة ، استخففت بالشهوة وآثرت الظفر بالأمر العويص على الظفر بها إن كنت كريم النفس عالي الهمّة. فمن هذا يعلم أنّ لك في ضمن هذا البدن أيضا لذّة عقليّة وأنت تدركها وتؤثرها