أو قريب من الواحد.
وأمّا أنّ المدرك في نفسه في الإدراك العقليّ أكمل فأمر لا يخفى. وأمّا أنّه أشدّ إدراكا فأمر أيضا تعرفه بأدنى تأمّل وتذكّر منك لما سلف بيانه ، فإنّ النفس الناطقة أكثر عدادا للمدركات ، حيث أنّ عدد تفاصيل المعقولات لا يكاد يتناهى ، وذلك لأنّ أجناس الوجودات وأنواعها غير متناهية ، وكذلك المناسبات الواقعة بينهما والمدركات بالحواس محصورة في أجناس قليلة ، وإن تكثّرت فإنّما تكثّرت بالأشدّ والأضعف ، كالحلاوتين المختلفتين ، وكذلك هي أشدّ تقصّيا للمدرك وأشدّ تجريدا له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلّا بالعرض ، ولها الخوض في بطن المدرك وظاهره. فإذا كانت حال الكمالات العقليّة هذه ، وحال الكمالات الحسّيّة بخلافه ، وكانت اللذّة التابعة لهما بتينك الحالتين أيضا ، حيث أنّ نسبة اللذّة إلى اللذّة نسبة الكمال إلى الكمال ، والإدراك إلى الإدراك ، كانت اللذّة العقليّة أقوى كيفيّة وأكثر كمّيّة من جميع الجهات من الحسّيّة. بل كيف يقاس هذا الإدراك بذلك الإدراك ، وكيف يقاس هذه اللذّة العقليّة باللذّة الحسّيّة والوهميّة والغضبيّة مثلا ، وكيف يقاس الألم العقليّ بالألم الحسّيّ أيضا؟ وبذلك تمّ بيان ما رامه هنا.
وقوله : «ولكنّا في عالمنا وبدننا هذين وانغمارنا في الرذائل لا نحسّ بتلك اللذّة ... إلى آخر ما قاله» تنبيه على حلّ إشكال يرد على هذا الموضع.
بيان الإشكال أنّ كلّ قوّة تشتاق إلى كمالها الخاصّ بها وتتألّم بحصول ضدّه لها ، كالباصرة مثلا فإنّها تشتاق إلى النور وتلتذّ بالشعور بحصوله لها ، وتنفر عن الظلمة وتتألّم منها ، فإن كانت المعقولات كمالات للنفس الإنسانيّة ، فما بالها لا تشتاق إلى حصولها ولا تتألّم لحصول الجهل بها المضاد لها؟
وبيان الحلّ أنّ سبب ذلك هو انتفاء شرط اللذّة هنا وكذا شرط الألم ، من الشروط المتقدّمة في الأصول المتقرّرة. أمّا شرط اللذّة فمن جهة أنّه قد تقرّر فيها أنّه قد يتيسّر للقوّة الدرّاكة كمال وأمر ملائم ، وهناك مانع أو شاغل للنفس ، فلا تلتذّ به ، بل ربّما تكرهه ، وهذا فيما نحن فيه متحقّق ، حيث أنّ اشتغال النفس بالمحسوسات حال كونها في ضمن البدن يمنعها إلى الالتفات إلى المعقولات ، وانغمارها في الرذائل البدنيّة يشغلها عن