في مرتبة العقل الهيولانيّ بالنسبة إلى حصول الكمال الخاصّ المعشوق لها ، كنفوس البله والمجانين والأطفال التي لم تدرك أنّ لها كمالات ولذّات ، فكأنّها هيولى محضة موضوعة لم تكتسب البتّة هذا الشوق ، لأنّ هذا الشوق إنّما يحدث حدوثا وينطبع في جوهر النفس ، إذا تبرهن للقوّة أنّ هاهنا أمورا يكتسب العلم بها بالحدود الوسطى على ما علمت.
وبالجملة ، إذا تحقّق عندها أنّ هاهنا أمورا كذلك ، وعرفت إنّيّتها وكذا ماهيّاتها من وجه في الجملة ، وإن لم تعرفها من الوجه الآخر الذي تكون معرفتها منه بالاكتساب ، وأمّا قبل ذلك التبرهن وكون النفس في مرتبة العقل الهيولانيّ بالنسبة إلى ذلك الكمال الخاص وإن كانت بالنسبة إلى غير ذلك في المراتب التي بعد العقل الهيولانيّ فلا يكون لها هذا التشوّق ، لأنّ هذا التشوق يتبع رأيا ، إذ كلّ شوق يتبع رأيا ، فما لم يحصل الرأي لم يحصل الشوق ، وليس هذا الرأي للنفس رأيا أوّليّا ، بل رأيا مكتسبا كما عرفت ، فليس لهذه النفس الساذجة الصرفة شوق إلى كمالها الخاص ، فليس لها ألم وتأذّي بسبب فقدانها إيّاه ، ولا شقاوة من هذه الجهة. ومثلها حينئذ مثل العنّين بالقياس إلى لذّة الجماع ، والأكمه عند الصور الجميلة ، والأصمّ عند الألحان المنتظمة ، فإنّهم لا يتأذّون بفقدان هذه اللذّات لعدم شوقهم إليها ، بل النسبة أبعد بكثير ، بل لا نسبة أصلا.
وأمّا هؤلاء المكتسبون للرأي المستتبع للشوق إلى الكمال الخاصّ للنفس ، فهم إذا اكتسبوا هذا الرأي ، لزم النفس ضرورة هذا الشوق ، فإذا فارقت عن البدن ولم يحصل معها ما تبلغ به بعد الانفصال عن البدن الكمال والتمام الذي من شأنها أن تبلغه لو استكملت ، حرمت من الوصول إلى ذلك الكمال المعشوق لها ، ولم تنل ما رجت منه ، فخابت وخسرت ووقعت في هذا النوع من الشقاء الأبديّ الذي تختلف مراتبه بحسب اختلاف مراتب الشوق إلى ذلك الكمال وحرمانها منه ، وكذا بحسب اختلاف مراتب الكمالات المعدّة لكلّ نفس ، فكلّما كان الشوق أعظم والكمال المعدّ أكمل والحرمان أبلغ ، كان الألم أشدّ والحسرة أدوم وأعظم ، وإنّما كان هذا الشقاء أبديّا لا يزول لأنّه لا يجبر ولا يزول سببه ، فإنّ أوائل الملكة العلميّة التي بها يمكن اكتساب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل ، لا شكّ أنّها تكتسب بالبدن لا غير ، وإن فرضنا أنّ لها في ضمن البدن إدراكا