التوسّط ، لم تحصّل ملكة الإفراط والتفريط أيضا ، ولم تطرأ على تلك النفس تلك الحالة الغريبة الرديّة ، سواء كانت راسخة أو غير راسخة ، فإنّ هذه النفس أيضا بسبب عدم تحصيلها ملكة التوسّط في كلّ أفعالها أو بعضها ، سواء حصلت لها هيئة راسخة أو غير راسخة غير هيئة الإفراط والتفريط ، أو لم تحصل ، لا تكون عقوبتها خالدة ، بل إنّ بعض تلك النفوس ممّا لا تتعذّب بذلك أصلا ، كما في النفوس الساذجة بالقياس إلى الهيئة العلميّة ؛ وبعضها وإن كانت تتعذّب بذلك ، إلّا أنّ عذابها أدون من عذاب من حصّلت ملكة الإفراط والتفريط من وجه ، حيث إنّها وإن كانت تتعذّب بفقدان ملكة التوسّط إذا كان لها شوق إليها ، لكنّها لا تتعذّب من جهة نفس تلك الهيئة الغريبة الموذية المؤلمة الحاصلة فيها ، أي هيئة الإفراط والتفريط ، حيث إنّها لم تكن فيها.
ثمّ إنّ الذي ذكرنا كلّه ، إنّما هو بيان كيفيّة الشقاوة بحسب فساد الجزء العمليّ من النفس ، ومنه يعلم بيان حال السعادة بحسب صلاحه ، وأنّ السعادة بحسبه تكون خالدة دائمة.
أمّا بيان حصول أصل السعادة بحسبه ، أي بحسب حصول ملكة التوسّط لها ، فظاهر بتقريب ما سبق ، لأنّ ملكة التوسّط ، حيث كانت كمالا للنفس الإنسانيّة من جهة قوّتها العمليّة ، وكانت هيئة مناسبة موافقة لجوهرها غير مضادّة لحقيقتها ، كان إدراكها والشعور بها لذّة وسعادة ، وإنّما كانت النفس لا تشعر بها ولا تستلذّها قبل المفارقة عن البدن ، لأنّ البدن هو الذي كان يغمرها ويلهيها ويغفلها عن الشوق الذي يخصّها عن طلب كمالها ، وحيث فارقت البدن زالت تلك الغفلة وحصل لها الشعور بها على أكمل وجه ، فحصلت لها بسببها السعادة العظيمة من جهة الشعور بها واستلذاذها ، بل من جهة الشعور بكمالها العمليّ أيضا إن كان لها ، لأنّه كما أنّ ملكة الإفراط والتفريط ، التي هي هيئة مضادّة للنفس ، كانت شاغلة لها عن إدراكها لكمالها العلميّ ، وكانت هي بسبب ذلك محجوبة النسبة عن الاتّصال الصرف بمحلّ سعادتها ، كذلك ملكة التوسّط التي هي هيئة موافقة للنفس ، وهي بخلاف هيئة الإفراط والتفريط لا تكون شاغلة وحاجبة لها عن ذلك ، بل هي معينة ومشوّقة إلى إدراك كمالها العلميّ أيضا ، فتكون لها السعادة من وجهين : أحدهما من جهة