أنّ مثل ذلك ممّا لا يكاد يخفى عليه لمعاشرته للناس ومعرفته بما يحتاجون إليه في التعبيرات ، ففرض جهلة بالحال خارج عن مجاري العادات سيّما فيما يعمّ به البليّة ويكثر الحاجة إليه في المخاطبات الدائرة.
الثاني : أنّ قضيّة الحكمة عدم إهمال الوضع بالنسبة إلى ما كان كذلك ؛ إذ بعد البناء على وضع الألفاظ بإزاء المعاني وجعلها آلة للتعبير والإفهام لم يكن إفهامها إذن بالألفاظ وتوقّف على ملاحظة الإشارات وضمّ القرائن والأمارات ، وذلك في الامور الدائرة المتداولة مخالف للحكمة الباعثة على وضع الألفاظ.
فإن قلت : إنّ الواضع لم يهمل وضع الألفاظ بإزاء تلك المعاني بالمرّة حتى يتوقّف بيانها إلى التعبير بالإشارة والإفهام بغير اللفظ والعبارة حتّى يرد ما ذكرت ، بل وضع جملة من الألفاظ بإزاء معاني خاصّة ثمّ وضعها لكلّ ما يناسب تلك المعاني ويرتبط بها ارتباطا مخصوصا بالوضع النوعي الترخيصي ، وهو كاف في إفهامها بالألفاظ وإن افتقر إلى ضمّ بعض القرائن ، كما هو الحال في المشتركات مع تعلّق الوضع التعييني بها ، فأيّ مانع من اكتفاء الواضع فيها بذلك ، فالمدّعى هو حصول الوضع التعييني المخصوص بالحقائق ، والّذي يقتضيه الوجه المذكور هو ثبوت الوضع على الوجه الأعمّ.
قلت : لا ريب في أنّ الحكمة في وضع الألفاظ هو تسهيل الأمر على الناس في بيان مطالبهم والتعبير عمّا في ضمائرهم ، وقضيّة ذلك كون الأوضاع المتعلّقة بها تعيينيّة على ما هو الحال في أوضاع الحقائق اللغويّة ؛ إذ هو الطريق الأكمل والنحو الأسهل في ذلك لما في التعبيرات المجازيّة من توقّف الإفهام على القرينة ، فمع ما فيها من الإطالة قد تخفى القرينة أو يصعب إقامتها في بعض الموارد فيختلّ الأمر ، ولأجل ذلك كان الاشتراك على خلاف الأصل مع ظهور الفرق بين القرينة المعتبرة في المجاز والحاصلة في المشترك ؛ إذ ليست القرينة في المشترك باعثة على الإفهام لحصول الفهم بعد العلم بالوضع كما مرّ بخلاف المجاز ، فإنّ نفس إفهام المعنى إنّما يجيء من القرينة دون الوضع المتعلّق به كما سبق بيانه.