إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ ) (١) حِينَ عَلِمُوا أَنَّ الْقُلُوبَ تَزِيغُ وَتَعُودُ إِلى عَمَاهَا وَرَدَاهَا (٢) ؛ إِنَّهُ لَمْ يَخَفِ اللهَ مَنْ لَمْ يَعْقِلْ عَنِ اللهِ ، وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ عَنِ اللهِ ، لَمْ يَعْقِدْ (٣) قَلْبَهُ عَلى مَعْرِفَةٍ ثَابِتَةٍ يُبْصِرُهَا وَيَجِدُ حَقِيقَتَهَا فِي قَلْبِهِ ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ كَذلِكَ إِلاَّ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ لِفِعْلِهِ مُصَدِّقاً ، وَسِرُّهُ لِعَلَانِيَتِهِ مُوَافِقاً ؛ لِأَنَّ اللهَ ـ تَبَارَكَ اسْمُهُ ـ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْبَاطِنِ الْخَفِيِّ مِنَ الْعَقْلِ (٤) إِلاَّ بِظَاهِرٍ مِنْهُ وَنَاطِقٍ عَنْهُ.
يَا هِشَامُ ، كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليهالسلام يَقُولُ : مَا عُبِدَ اللهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ ، وَمَا تَمَّ عَقْلُ امْرِىً حَتّى يَكُونَ فِيهِ خِصَالٌ شَتّى : الْكُفْرُ وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونَانِ ، وَالرُّشْدُ وَالْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولَانِ ، وَفَضْلُ مَالِهِ مَبْذُولٌ ، وَفَضْلُ قَوْلِهِ مَكْفُوفٌ ، وَنَصِيبُهُ مِنَ الدُّنْيَا الْقُوتُ ، لَا يَشْبَعُ مِنَ الْعِلْمِ دَهْرَهُ ، الذُّلُّ أَحَبُّ إِلَيْهِ مَعَ اللهِ مِنَ الْعِزِّ (٥) مَعَ غَيْرِهِ ، وَالتَّوَاضُعُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِ ، يَسْتَكْثِرُ قَلِيلَ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَيَسْتَقِلُّ كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَيَرَى النَّاسَ كُلَّهُمْ خَيْراً مِنْهُ ، وَأَنَّهُ شَرُّهُمْ (٦) فِي نَفْسِهِ ، وَهُوَ تَمَامُ الْأَمْرِ. (٧)
يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعَاقِلَ لَايَكْذِبُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ هَوَاهُ.
__________________
(١) آل عمران (٣) : ٨.
(٢) الردى : الهلاك والضلال. راجع : الصحاح ، ج ٦ ، ص ٢٣٥٥ ( ردى ).
(٣) في « ألف » وحاشية « ب » : « لم يعقل ».
(٤) في حاشية « بح » : « العقلاء ».
(٥) في حاشية « ج » : « العزّة ».
(٦) في « بر » : « أشرّهم ».
(٧) أي جميع امور الدين تتمّ بذلك ، او كأنّه جميع امور الدين مبالغة. كما في مرآة العقول. وقال في الوافي : « وهو تمام الأمر ، أي رؤية الناس خيراً ونفسه شرّاً تمام الأمر ؛ لأنّها موجبة للاستكانة والتضرّع التامّ إلى الله والخروج إليه بالفناء عن هذا الوجود المجازي الذي كلّه ذنب وشرّ ... ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الكون الذي في قوله « حتى يكون » فكان المعنى أنّ ملاك الأمر وتمامه في أن يكون الإنسان كاملاً تامّ العقل ، هو كونه متّصفاً بجميع هذه الخصال المذكورة ».