فقالوا لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره وإنما نصبر ونتربص موته ويهلك كما هلك من قبله من الشعراء وتتفرّق أصحابه فإنّ أباه مات شابا ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه ، والمنون يكون بمعنى الدهر وبمعنى الموت سميا بذلك لأنهما يقطعان الأجل.
ثم إنه تعالى أمر نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم بقوله : (قُلْ) أي : لهؤلاء البعداء (تَرَبَّصُوا) أي انتظروا بي الموت ولم يعرج على محاججتهم في قولهم هذا تنبيها على أنه من السقوط بمنزلة ما لا يحتاج معه إلى ردّ بمجادلة ، ثم سبب عن أمره لهم بالتربص قوله : (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي : العريقين في التربص وإن ظننتم خلاف ذلك وأكده تنبيها على أنه يرجو الفرج بمصيبتهم كما يرجون الفرج بمصيبته ، وأشار بالمعية إلى أنه مساو لهم في ذلك وإن ظنوا لكثرتهم وقوّتهم ووحدته وضعفه أن الأمر بخلاف ذلك.
قال القشيري : جاء في التفسير أنّ جميعهم أي الذين تربصوا به ماتوا قال ولا ينبغي لأحد أن يؤمل نفاق سوقه بموت أحد لتنتهي النوبة إليه فقلّ من تكون هذه صفاته إلا وسبقته المنية ولا يدرك ما تمناه من الأمنية.
فإن قيل : هذا أمر للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ولفظ الأمر يوجب المأمور به أو يبيحه ويجوّزه وتربصهم كان حراما. أجيب : بأنّ ذلك ليس بأمر وإنما هو تهديد أي تربصوا ذلك فإني متربص الهلاك بكم كقول الغضبان لعبده افعل ما شئت فإني لست عنك بغافل.
(أَمْ تَأْمُرُهُمْ) أي : تزين لهم تزيينا يصير ما لهم إليه من الانبعاث كالأمر (أَحْلامُهُمْ) أي عقولهم التي يزعمون أنهم اختصوا بجودتها دون الناس بحيث إنه كان يقال فيهم أولو الأحلام والنهى ، فأزرى الله تعالى بعقولهم حين لم تتم لهم معرفة الحق من الباطل وذلك أنّ الأشياء لا يعبأ بها إلا إن تزينت بعقل أو نقل فقال : هل ورد أمر سمعي أم عقولهم تأمرهم (بِهذا) أي : قولهم له ساحر كاهن مجنون وقيل : إلى عبادة الأوثان ، وقيل : إلى التربص أي لا تأمرهم بذلك (أَمْ) أي بل (تَأْمُرُهُمْ) بظواهرهم وبواطنهم (قَوْمٌ) ذوو قوة على ما يحاولونه فهم لذلك (طاغُونَ) أي : مفترون ويقولون ما لا دليل عليه سمعا ولا مقتضى له عقلا ، والطغيان مجاوزة الحدّ في العصيان وكذلك كل شيء مكروه ظاهر قال تعالى : (لَمَّا طَغَى الْماءُ) [الحاقة : ١١].
تنبيه : اعلم أنّ قوله تعالى : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ) متصل تقديره : أأنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا ، وفي هذه الآية إشارة إلى أنّ كل ما لا يكون على وفق العقل لا ينبغي أن يقال ، وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قوله عقلا والأحلام جمع حلم وهو العقل فهما من باب واحد من حيث المعنى ، لأنّ العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المعقول لا يتحرّك من مكانه والحلم من الاحتلام وهو أيضا سبب وقار المرء وثباته لأنّ الحلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزم الغسل الذي هو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلفا ، فالله تعالى من لطيف حكمته قرن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة يكمل العقل ويكلف صاحبه فأشار تعالى إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحلم ليعلم أنه يريد به كمال العقل.
(أَمْ يَقُولُونَ) ما هو أفحش عارا من التناقض (تَقَوَّلَهُ) أي : تكلف قوله من عند نفسه كذبا وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون وهم على كثرتهم وإلمام بعضهم بالعلم وعراقة آخرين في الشعر والخطب والترسل والسجع يعجزون عن مثله بل عن مثل شيء منه.