تنبيه : التقوّل تكلف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضا متصل بقوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) تقديره أم يقولون شاعر أم يقولون تقوّله والمعنى ليس الأمر كما زعموا (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) بالقرآن استكبارا.
ثم ألزمهم الحجة وأبطل جميع الأقسام. فقال عز من قائل : (فَلْيَأْتُوا) أي : على أيّ تقدير أرادوه (بِحَدِيثٍ) أي : كلام مفرق مجدّد إتيانه مع الأزمان (مِثْلِهِ) أي القرآن في البلاغة وصحة المعاني والإخبار بالمغيبات مما كان أو يكون على ما هي عليه لا نكلفهم أن يأتوا به جملة.
فإن قيل : الصفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير ، والموصوف هنا حديث وهو منكر ومثله مضاف إلى القرآن والمضاف إلى القرآن معرّف فكيف هذا. أجيب : بأنّ مثلا وغيرا لا يتعرّفان بالإضافة وذلك أن غيرا ومثلا وأمثالهما في غاية التنكير لأنك إذا قلت : مثل زيد يتناول كل شيء فإنّ كل شيء مثل زيد في شيء فالحمار مثله في الجسم والحجم والإمكان ، والنبات مثله في النموّ والنشء والذبول والفناء ، والحيوان مثله في الحركة والإدراك وغيرهما من الأوصاف وأمّا غير فهو عند الإضافة ينكر وعند قطع الإضافة ربما يتعرف فإنك إذا قلت : غير زيد صار في غاية الإبهام فإنه يتناول أمورا لا حصر لها وأما إذا قطعت غير عن الإضافة فربما يكون الغير والمغايرة من باب واحد وكذلك التغير فتجعل الغير كأسماء الأجناس وتجعله مبتدأ أو تريد به معنى معينا.
تنبيه : قالت المعتزلة : الحديث محدث والقرآن سماه حديثا فيكون محدثا ، وأجيبوا : بأنّ الحديث اسم مشترك يقال للمحدث والمنقول ولهذا يصح أن يقال هذا حديث قديم أي متقادم العهد لا بمعنى سلب الأولية وذلك لا نزاع فيه. قال بعض العلماء : وهذا أمر تعجيز ، قال الرازي : والظاهر أنّ الأمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل ائتوا مطلقا بل قال تعالى : (إِنْ كانُوا) أي : كونا هم راسخون فيه (صادِقِينَ) أي : في أنه تقوله من عند نفسه كما يزعمون فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يجب الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٨] وفي هذا تشنيع عليهم سواء ادعوا أنه مجنون أم شاعر أم كاهن أم غير ذلك ، لأنّ العادة تحيل أن يأتي واحد من قوم وهو مساو لهم بما لا يقدرون كلهم على مثله ، والعاقل لا يجزم بشيء إلا وهو عالم به ويلزم من علمهم بذلك قدرتهم على مثل ما يأتي به ، فإنه صلىاللهعليهوسلم مثلهم في الفصاحة والبلد والنسب وبعضهم يزيد عليه بالكتابة وقول الشعر ومخالطة العلماء ومزاولة الخطب والرسائل وغير ذلك فلا يقدر على ما يعجزون عنه إلا بتأييد إلهي وهو المراد من تكذيبهم.
(أَمْ خُلِقُوا) أي : وقع خلقهم على هذه الكيفية المتقنة (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي : خالق خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون لأنّ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) لأنفسهم وذلك في البطلان أشدّ ، لأنّ ما لا وجود له كيف يخلق فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأنّ لهم خالقا وهو الله تعالى فلم لا يوحدونه ويؤمنون به وبرسوله وبكتابه وقال الزجاج : معناه أخلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمنون وقال ابن كيسان : أخلقوا عبثا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون كقول القائل : فعلت كذا وكذا من غير شيء ، أي : لغير شيء أم هم الخالقون لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر. وقيل : معناه أخلقوا من غير أب وأم.