«ذهب ، ورأيت على كلّ ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى وذلك قوله عز من قائل : إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى» (١) وقيل : ملائكة تغشاها كأنهم طيور يرتقون إليها متشوقين متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة وروي في حديث المعراج عن أنس أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كقلال هجر قال : فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها ، فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة» (٢).
وقيل : يغشاها أنوار الله تعالى ، لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار ، ولكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل دكا ولم تتحرّك الشجرة وخر موسى عليهالسلام صعقا ولم يتزلزل محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : أبهمه تعظيما له والغشيان يكون بمعنى التغطية قال الماوردي في معاني القرآن : فإن قيل : لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر قلنا : لأنّ السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظلّ مديد وطعم لذيذ ورائحة ذكية ، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا وعملا ونية فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوره ، وطعمها بمنزلة النية لكمونه ، وريحها بمنزلة القول لظهوره ، وروى أبو داود عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «من قطع سدرة صوب الله تعالى رأسه في النار» (٣) وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال : هو مختصر يعني : من قطع سدرة في فلاة يستظلّ بها ابن السبيل والبهائم ، عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها ، صوب الله تعالى رأسه في النار.
ثم أكد سبحانه الرؤية وقرّرها بقوله تعالى (ما زاغَ) أي : ما مال أدنى ميل (الْبَصَرُ) أي الذي لا بصر لمخلوق أكمل منه فما قصر عن النظر إلى ما أذن له فيه وما زاد (وَما طَغى) أي : تجاوز الحد إلى ما لم يؤذن له فيه ، مع أنّ ذاك العالم غريب عن بني آدم وفيه من العجائب ما يحير الناظر ، بل كانت له الصفة الصادقة المتوسطة بين الشره والزهادة على أتم قوانين العدل فأثبت ما رآه على حقيقته ، وكما هو قال السهروردي في أول الباب الثاني والثلاثين من عوارفه : وأخبر تعالى بحسن أدبه في الحضرة بهذه الآية وهذه غامضة من غوامض الأدب اختص بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
تنبيه : اللام في البصر تحتمل وجهين :
أحدهما : المعروف أي ما زاغ بصر محمد صلىاللهعليهوسلم ، وعلى هذا إن قيل بأنّ الغاشي للسدرة هو الجراد والفراش فمعناه لم يلتفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن مقصوده فيكون غشيان الجراد والفراش ابتلاء وامتحانا لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وإن قيل إنّ الغاشي أنوار الله تعالى ففيه وجهان : أحدهما : لم يلتفت يمنة ولا يسرة بل اشتغل بمطالعتها. الثاني : ما زاغ البصر بصعقه بخلاف موسى عليهالسلام فإنه قطع النظر وغشي عليه ، ففي الأوّل بيان أدب محمد صلىاللهعليهوسلم وفي الثاني بيان قوّته.
الوجه الثاني : أنّ اللام لتعريف الجنس أي ما زاغ بصره أصلا في ذلك الموضع لعظم هيبته
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.
(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٨٨٧.
(٣) أخرجه أبو داود في الأدب حديث ٥٢٣٩.