فإن قيل : لو كان كذلك لقال ما زاغ بصره فإنه أدلّ على العموم فإنّ النكرة في معرض النفي تعم ، أجيب : بأنّ هذا مثل كقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] ولم يقل ولا يدركه بصر.
ولما كانوا قد أنكروا الإسراء إنكارا لم يقع لهم في غيره مثله زاد في تأكيده على وجه يعمّ غيره فقال تعالى : (لَقَدْ رَأى) أي : أبصر ما أهلناه له من الرسالة تلك الليلة إبصارا ساريا إلى البواطن غير مقتصر على الظواهر (مِنْ آياتِ رَبِّهِ) أي : المحسن إليه بما لم يصل إليه أحد قبله ولا يصل إليه أحد بعده (الْكُبْرى) أي : العظام أي بعضها ، واختلف في ذلك البعض فقيل جبريل عليهالسلام رآه في صورته له ستمائة جناح. وقال الرازي : والظاهر أن هذه الآيات غير تلك لأنّ جبريل عليهالسلام وإن كان عظيما لكنه ورد في الأخبار أنّ لله تعالى ملائكة أعظم منه ، والكبرى تأنيث الأكبر فكأنه تعالى قال رأى من آيات ربه آيات هنّ أكبر الآيات وقيل رأى : رفرفا أخضر سد الأفق وقيل : أراد ما رأى في تلك الليلة في مسيره وعوده ومن اجتماعه تلك الليلة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السموات.
ولما قرّر تعالى الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك بقوله تعالى :
(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))
(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) إشارة إلى إبطال قولهم كما إذا ادّعى ضعيف الملك ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون : انظروا إلى هذا الذي يدعي الملك منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره ، فلذلك قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) أي كما هما فكيف تشركونهما بالله سبحانه وتعالى ، واللات صنم ثقيف والعزى شجرة لغسان وهما أعظم أصنامهم ، اشتقوا لهما اسمين من أسماء الله تعالى فقالوا من الله اللات ومن العزيز العزى وقيل : العزى تأنيث الأعز وعن ابن عباس كان اللات رجلا يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره.
وعن مجاهد أن العزى شجرة لغطفان كانوا يعبدونها فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم خالد بن الوليد فقطعها فجعل خالد يضربها بالفأس ويقول (١) :
يا عز كفرانك لا سبحانك |
|
إني رأيت الله قد أهانك |
__________________
(١) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (عزز) ، وتاج العروس (عزز) ، والمخصص ١٥ / ١٩٠.