العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع» (١) الحديث.
ولذلك علل بقوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ) أي : منكم ومن جميع الخلق (بِمَنِ اتَّقى) أي فإنه يعلم المتقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم عليهالسلام فمن جاهد نفسه حتى حصل منه تقوى فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين فكيف بمن صارت له التقوى وصفا ثابتا.
ولما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحدا منهم بسوء فعله فقال تعالى :
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أي : عن اتباع الحق والثبات عليه. قال مجاهد وأبو زيد ومقاتل نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبيّ صلىاللهعليهوسلم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال : إني خشيت عذاب الله تعالى فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك الذي ضمن ومنعه تمامه ، فأنزل الله تعالى (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أي أدبر عن الإيمان.
(وَأَعْطى قَلِيلاً) أي : من المال المسمى (وَأَكْدى) أي : منع الباقي ، مأخوذ من الكدية أرض صلبة كالصخرة تمنع حافر البئر إذا وصل إليها من الحفر ، فأكدى أصله من أكدى الحافر إذا حفر شيئا فصادف كدية منعته من الحفر ومثله : أجبل إذا صادف جبلا منعه من الحفر وكديت أصابعه كلّت من الحفر ثم استعمل في كل من طلب شيئا فلم يصل إليه أو لم يتممه ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره قال الحطيئة (٢) :
وأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه |
|
ومن يفعل المعروف في الناس يحمد |
وقال السدي : نزلت في العاص بن وائل السهمي وذلك أنه ربما يوافق النبيّ صلىاللهعليهوسلم في بعض الأمور وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله تعالى : (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) أي لم يؤمن به ومعنى أكدى قطع ، وروي أنّ عثمان رضى الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة : يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان : إنّ لي ذنوبا وخطايا وإني أطلب
__________________
(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٣٢.
(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الحطيئة ص ٤٨.