قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلكت أهل الأرض فنزل : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فأيقنت الملائكة بالهلاك.
فإن قيل : الكلام في تعدّد النعم فأين النعمة في فناء الخلق؟ أجيب : بأنها التسوية بينهم في الموت والموت سبب للنقل إلى دار الجزاء والثواب.
(وَيَبْقى) أي : بعد فناء الكل بقاء مستمرّا إلى ما لا نهاية له (وَجْهُ رَبِّكَ) أي : ذاته فالوجه عبارة عن وجود ذاته. قال ابن عباس : الوجه عبارة عنه.
فإن قيل كيف خاطب الاثنين بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وخاطب ههنا الواحد فقال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ولم يقل وجه ربكما؟ أجيب : بأنّ الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد فقال : ويبقى وجه ربك أيها السامع ليعلم كل أحد أنّ غيره فان فلو قال : ويبقى وجه ربكما لكان كل أحد يخرج نفسه ورفيقه ؛ المخاطب عن الفناء ، فإن قيل : فلو قال : ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل ؛ أجيب : بأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف ، والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم ، فلهذا قال : بلفظ الرب وكاف الخطاب ولما ذكر تعالى مباينته للمخلوقات وصف نفسه بالإحاطة الكاملة فقال تعالى : (ذُو الْجَلالِ) أي : العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به (وَالْإِكْرامِ) أي : الإحسان العام وهو صفة فعله مع جلاله وعظمته.
(فَبِأَيِّ آلاءِ) أي : نعم (رَبِّكُما) أي : المربى لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى (تُكَذِّبانِ) أبتلك النعم من بقاء الرب وفناء الكل والحياة الدائمة والنعيم المقيم أم بغيرها؟.
وقوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) أي : كلها كلهم (وَالْأَرْضِ) كذلك مستأنف وقيل : حال من وجه والعامل فيه يبقى أي : يبقى مسؤولا من أهل السموات والأرض بلسان الحال أو المقال أو بهما. قال ابن عباس وأبو صالح : أهل السموات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونهما جميعا. وقال ابن جريج : يسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض فكانت المسألتان جميعا من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض كما في الحديث ، قال القرطبي : وفي الحديث : «إن من الملائكة ملكا له أربعة أوجه وجه كوجه الإنسان يسأل الله تعالى الرزق لبني آدم ، ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله تعالى الرزق للسباع ، ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله تعالى الرزق للبهائم ، ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله تعالى الرزق للطير» (١). وقال ابن عطاء : إنهم يسألوه القوّة على العبادة. وقوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ) منصوب بالاستقرار الذي تضمنه الخبر وهو قوله تعالى : (هُوَ فِي شَأْنٍ) والشأن الأمر روى أبو الدرداء : عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «كل يوم هو في شان قال من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربة ويرفع أقواما ويضع آخرين» (٢). وعن ابن عمر : عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «يغفر ذنبا ويكشف كربا ويجيب داعيا» (٣). وقال أكثر المفسرين من شأنه أنه يحيي
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٧ / ١٦٦.
(٢) أخرجه ابن ماجه في المقدمة حديث ٢٠٢.
(٣) روي الحديث بلفظ : «يغفر ذنبنا ويكشف كربنا ...» أخرجه ابن حجر في فتح الباري ٨ / ٦٢٣ ، والطبري في تفسيره ٢٧ / ٧٩ ، وابن كثير في تفسيره ٧ / ٤٧١ ، والقرطبي في تفسيره ١٧ / ١٦٦.