(يَطُوفُونَ بَيْنَها) أي بين درك النار (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي حار متناه في الحرارة وهو منقوص كقاض يقال أنى يأني فهو آن كقضى يقضي فهو قاض والمعنى أنهم يسعون بين الحميم والجحيم ، فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآن الذي صار كالمهل وهو قوله تعالى : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) [الكهف : ٢٩] وقال كعب الأحبار : واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم ، ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم خلقا جديدا ، فيلقون في النار ، فذلك قوله تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ.)
فإن قيل : هذه الأمور ليست نعمة؟ فكيف قال عزوجل : (فَبِأَيِّ آلاءِ) أي : نعم (رَبِّكُما) أي : المحسن أيها الثقلان إليكما (تُكَذِّبانِ) أجيب : من وجهين :
أحدهما : أن ما وصف من هول يوم القيامة وعقاب المجرمين فيه زجر عن المعاصي وترغيب في الطاعات ، وهذا من أعظم النعم ؛ روي أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم أتى على شاب يقرأ في الليل (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧)) [الرحمن : ٣٧] فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول ويحي من يوم تنشق فيه السماء ويحي فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «ويحك يا فتى منها فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء من بكائك» (١).
الثاني : أنّ المعنى إن كذبتم بالنعمة المتقدّمة استحقيتم هذه العقوبات وهي دالة على الإيمان بالغيب ، وهو من أعظم النعم.
ولما عرف ما للمجرم المجترئ على العظائم وقدمه لما اقتضاه مقام التكذيب من الترهيب ، وجعله سابعا إشارة إلى أبواب النار السبع ، عطف عليه ما للخائف الذي أداه خوفه إلى الطاعة ، وجعله ثامنا على عدد أبواب الجنة الثمانية فقال تعالى : (وَلِمَنْ خافَ) أي : من الثقلين ووحد الضمير مراعاة للفظ من إشارة إلى قلة الخائفين (مَقامَ رَبِّهِ) أي : قيامه بين يدي ربه للحساب بترك المعصية والشهوة ؛ قال القرطبي : ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله تعالى وهو كالأجل في قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) [الأعراف : ٣٤] وقوله تعالى في موضع آخر : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) [نزح : ٤]. وقال مجاهد : هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها من مخافته عزوجل. (جَنَّتانِ) أي : لكل خائف جنتان على حدة. قال مقاتل : جنة عدن وجنة النعيم وقال محمد بن علي الترمذي : جنة بخوف ربه وجنة بترك شهوته ؛ وقال ابن عباس : من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض ؛ وقيل : جنتان لجميع الخائفين ؛ وقيل : جنة لخائف الإنس وأخرى لخائف الجنّ فيكون من باب التوزيع ؛ وقيل : مقام هنا مقحم كما تقول أخاف جانب فلان ، وفعلت هذا لمكانك ، وأنشد (٢) :
................ ونفيت عنه |
|
مقام الذئب ؛ كالرجل اللعين |
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.
(٢) صدره :
ذعرت به القطا ونفيت عنه
والبيت من الوافر ، وهو للشماخ بن ضرار في ديوانه ص ٣٢١ ، وجمهرة اللغة ص ٩٤٩ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٤٧ ، ٣٤٨ ، وشرح المفصل ٣ / ١٣ ، ولسان العرب (لعن) ، والمعاني الكبير ١ / ١٩٤ ، المنصف ١ / ١٠٩ ، وبلا نسبة في مجالس ثعلب ٢ / ٥٤٣.