وفي الحديث : «أهل الجنة مرد مكحولون الوفانين» (١) يريد الأفانين وهو جمع أفنان وأفنان جمع فنن من الشعر شبه بالغصن ذكره الهروي. وقال قتادة : ذواتا أفنان أي : ذواتا سعة وفضل على سواهما.
والوجه الثاني : أنه جمع فن وإليه أشار ابن عباس. والمعنى ذواتا أنواع وأشكال وقال الضحاك : ألوان من الفاكهة واحدها فنّ إلا أنّ الكثير في فنّ أن يجمع على فنون : وقال عطاء كل غصن فنون من الفاكهة ، ولذا سبب عنه قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ) أي : نعم (رَبِّكُما) أي : المحسن إليكما والمدبر لكما (تُكَذِّبانِ) أبتلك النعم من وصف الجنة الذي جعل لكم من أمثاله ما تعتبرون به ، أم بغيرها؟.
ولما كانت الجنان لا تقوم إلا بأنهار قال تعالى : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) أي : في كل واحدة منهما عين جارية قال ابن عباس تجريان : ماء بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة ؛ وعن ابن عباس أيضا والحسن : تجريان بالماء الزلال إحدى العينين التسنيم والأخرى السلسبيل ؛ وقال عطية : أحدهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذة للشاربين ؛ وقيل : تجريان من جبل من مسك قال أبو بكر الوراق : فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عزوجل فتجريان في أي مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه كما تصعد المياه في الأشجار في كلّ غصن منها وإن زاد علوها.
(فَبِأَيِّ آلاءِ) أي : نعم (رَبِّكُما) أي : المالك لكما والمحسن إليكما (تُكَذِّبانِ) أبتلك النعم التي ذكرها وجعل لها في الدنيا أمثالا أم بغيرها؟.
(فِيهِما) أي : الجنتين (مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) أي : تعلمونها أو لا تعلمونها (زَوْجانِ) أي :
صنفان ونوعان قيل : معناه أنّ فيهما من كلّ ما يتفكه به ضربين رطبا ويابسا ؛ وقال ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرّة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو.
فإن قيل : قوله تعالى : (ذَواتا أَفْنانٍ) و (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) و (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) كلها أوصاف للجنتين فما الحكمة في فصل بعضها عن بعض بقوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مع أنه تعالى لم يفصل حين ذكر العذاب بين الصفات ؛ بل قال تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) مع أنّ إرسال الشواظ غير إرسال النحاس؟ أجيب : بأنه تعالى جمع العذاب جملة ، وفصل آيات الثواب ترجيحا لجانب الرحمة على جانب العذاب ، وتطييبا للقلب وتهييجا للسامع فإن إعادة ذكر المحبوب وتطويل الكلام في اللذات مستحسن.
فإن قيل : فما وجه توسط آية العينين بين ذكر الأفنان وآية الفاكهة والفاكهة إنما تكون على الأغصان ، والمناسبة ألا يفصل بين آية الأغصان والفاكهة؟ أجيب : بأنّ ذلك على عادة المتنعمين إذا خرجوا متفرجين في البستان ؛ فأوّل قصدهم الفرجة بالخضرة والماء ثم يكون الأكل تبعا.
(فَبِأَيِّ آلاءِ) أي : نعم (رَبِّكُما) التي ادخرها الموجد لكما المحسن إليكما (تُكَذِّبانِ) أبتلك النعم أم بغيرها مما فوضه إليكم من سائر النعم التي لا تحصى؟
__________________
(١) روي الحديث بلفظ : «أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا يبلى ثيابهم» أخرجه بهذ اللفظ الترمذي حديث ٢٥٣٩.