الحديث ردّ على من يقول : إنّ الأشجار لا ظل لها وقد سئل السبكي عن الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إذا تراءت له شجرة يقول : يا رب أدنني من هذه لأستظل في ظلها ، الحديث من أيّ شيء يستظل والشمس قد كورت؟ أجاب بقوله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) وبقوله تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) [يس : ٥٦] إذ لا يلزم من تكوير الشمس عدم الظل لأنه مخلوق لله تعالى وليس بعدم بل أمر وجودي له نفع بإذن الله تعالى في الأبدان وغيرها. فليس الظل عدم الشمس كما قد يتوهم ؛ وروى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال شجرة في الجنة يخرج إليها أهل الجنة فيتحدّثون ، ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله تعالى عليهم ريحا من الجنة فتتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) أي : جار في منازلهم في غير أخدود لا يحتاجون فيه إلى جلب ماء من الأماكن البعيدة ولا إدلاء في بئر كأهل البوادي ، فإن العرب كانت أصحاب بادية وبلاد حارّة ، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك (فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي : أجناسها وأنواعها وأشخاصها (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) قال ابن عباس رضى الله عنهما : لا تنقطع إذا جنيت ، ولا تمتنع من أحد إذ أراد أخذها ، وقال بعضهم : لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع أكثر ثمار الدنيا إذا جاء الشتاء ، ولا يتوصل إليها إلا بالثمن ؛ وقيل : لا يمنع من أرادها شوك ولا بعد ولا حائط بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها ، قال تعالى (قُطُوفُها دانِيَةٌ) [الحاقة : ٢٣] وجاء في الحديث : «ما قطع من ثمار الجنة إلا أبدل الله تعالى مكانها ضعفين» (١).
ولما كان التفكه لا يكمل الالتذاذ به إلا مع الراحة قال تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي : رفيعة القدر يقال : ثوب رفيع ، أي : عزيز مرتفع القدر والثمن بدليل قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤] فكيف ظهائرها أو مرفوعة فوق السرر بعضها فوق بعض ؛ روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال : «ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام» (٢). قال : حديث غريب ؛ وقيل : هي كناية عن النساء كما كنى عنهن باللباس ، أي : ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن ، والعرب تسمى المرأة فراشا ولباسا على الاستعارة.
دليل هذا التأويل قوله تعالى : (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة التي لا يتعاظمها شيء (أَنْشَأْناهُنَ) أي : الفرش التي معناها النساء من أهل الدنيا بعد الموت بالبعث وزاد في التأكيد فقال تعالى : (إِنْشاءً) أي : خلقا جديدا من غير ولادة بل جمعناهن من التراب كسائر بني آدم ، ليكونوا كأبيهم آدم عليهالسلام في خلقه من تراب ، لتكون الإعادة كالبداءة ولذلك يكون الكل عند دخول الجنة على شكله عليهالسلام ، وروى النحاس بإسناده أن أم سلمة سألت النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) فقال : «هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا عمشا رمصا جعلهن الله تعالى بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء» (٣). وروى أنس بن مالك رضى
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.
(٢) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٩٤.
(٣) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٤١٧ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٥٤٤ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٥١.