بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد.
ثم ذكر تعالى طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال عز من قائل : (فَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفى (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) السابقين الذين اجتذبهم الحق من أنفسهم فقرّبهم منه فكانوا مرادين قبل أن يكونوا مريدين ، وليس القرب قرب مكان لأنه تعالى منزه عنه وإنما هو بالتخلق بالصفات الشريفة على قدر الطاقة البشرية ليصير الإنسان روحا خالصا كالملائكة لا سبيل إلى الحظوظ والشهوات عليها وقوله تعالى : (فَرَوْحٌ) مبتدأ خبره مقدّر قبله أي : فله روح ، أي : راحة ورحمة وما ينعشه من نسيم الريح. وقال سعيد بن جبير : فله فرج ، وقال الضحاك : مغفرة ورحمة (وَرَيْحانٌ) أي : رزق عظيم ونبات حسن بهيج وأزاهير طيبة الرائحة ، وقال مقاتل : هو بلسان حمير رزق ، يقال : خرجت أطلب ريحان الله أي : رزقه ؛ وقيل : هو الريحان الذي يشم ؛ قال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض روحه ؛ وقال أبو بكر الوراق : الروح النجاة من النار والريحان دخول دار القرار (وَجَنَّةُ) أي : بستان جامع الفواكه والرياحين (نَعِيمٍ) أي : ذات تنعم ليس فيها غيره وأهله مقصورة عليهم.
تنبيه : جنت هنا مجرورة التاء ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ، فالكسائي بالأمالة في الوقف على أصله ، والباقون بالتاء على المرسوم.
(وَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفى (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي : الذين هم في الدرجة الثانية من أصحاب الميمنة (فَسَلامٌ لَكَ) أي : يا صاحب اليمين (مِنْ) إخوانك (أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي : يسلمون عليك كقوله تعالى : (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٦] وقال القرطبي : فسلام لك من أصحاب اليمين أي : لست ترى منهم إلا ما تحبّ من السلامة فلا تهتم لهم فإنهم يسلمون من عذاب الله تعالى ؛ وقيل المعنى : سلام لك منهم ، أي : أنت سالم من الاعتمام لهم والمعنى واحد ؛ وقيل : أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم ؛ وقيل معناه : سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين فحذف إنك ؛ وقيل : إنه يحيى بالسلام تكرّما ؛ وعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقوال : أحدها : عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت قاله الضحاك ، وقال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام ، الثاني : عند مسألته في القبر يسلم عليه منكر ونكير ، الثالث : عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها ؛ قال القرطبي : ويحتمل أن يسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراما بعد إكرام.
ولما ذكر تعالى الصنفين الناجيين أتبعهما الهالكين جامعا لهم في صنف واحد لأنّ من أريدت له السعادة يكفيه ذلك ومن ختم له بالشقاوة والعياذ بالله تعالى لا ينفعه الإغلاظ والإكثار فقال تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفى (مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) الذين أخذناه من أصحاب المشأمة وأنتم حوله تتقطع أكبادكم له ولا تقدرون له على شيء أصلا (الضَّالِّينَ) أي : عن الهدى وطريق الحق (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) كما قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٥١] إلى أن قال : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة : ٥٤] وقال تعالى : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) [الصافات : ٦٧] أي : ماء متناه في الحرارة بعد ما نالوا من العطش كما يرد أصحاب الميمنة الحوض كما يبادر به