قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته» (١). ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل : ٣٢] لأنّ الباء في الحديث عوضية ، وفي الآية سببية ، فإن قيل : يلزم على هذا أن يقطع بحصول الجنة لجميع العصاة وأن يقطع بأنه لا عقاب عليهم؟ أجيب : بأنا نقطع بحصول الجنة ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة بقوا فيها أبد الآباد فكانت معدة لهم (وَاللهُ) أي : والحال أنّ الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي : الذي جل أن تحيط بوصفه العقول (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) أي : من قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمرات وغلاء الأسعار وتتابع الحوائج وغير ذلك (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) أي : من الأمراض والفقر وذهاب الأولاد وضيق العيش وغير ذلك (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي : مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي : نخلق ونوجد ونقدر المصيبة في الأرض والأنفس ، وهذا دليل على أنّ اكتساب العباد بخلقه سبحانه وتعالى وتقديره (إِنَّ ذلِكَ) أي : الأمر الجليل وهو علمه بالشيء وكتبه له على تفاصيله قبل أن يخلقه (عَلَى اللهِ) أي : لما له من الإحاطة بصفات الكمال (يَسِيرٌ) لأن علمه محيط بكل شيء فقدرته شاملة لا يعجزه فيها شيء.
ثم بين ثمرة إعلامه بذلك بقوله تعالى : (لِكَيْلا) أي : أعلمناكم بأنا على ما لنا من العظمة قد فرغنا من التقدير فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير لا الحزن يدفعه ولا السرور يجلبه ويجمعه كما قال صلىاللهعليهوسلم : «يا معاذ ليقل همك ما قدر يكن» (٢) لأجل أن (تَأْسَوْا) أي : تحزنوا حزنا كبيرا زائدا على ما في أصل الجبلة فربما جرّ ذلك إلى السخط وعدم الرضا بالقضاء (عَلى ما فاتَكُمْ) أي : من المحبوبات الدنيوية (وَلا تَفْرَحُوا) أي : تسروا سرورا يوصلكم إلى البطر بالتمادي على ما في أصل الجبلة وقوله تعالى : (بِما آتاكُمْ) قرأه أبو عمرو بقصر الهمزة ، أي : جاءكم منه ، والباقون بالمد أي أعطاكم قال جعفر الصادق رضي الله عنه : ما لك تأسف على مفقود ولا يردّه عليك الفوت وما لك تفرح بموجود ولا يتركه في يدك الموت ا. ه.
ولقد عزى الله تعالى المؤمنين رحمة بهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده ، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيده ، وبأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بإدخاره عند الله تعالى وذلك بأن يقول : المصيبة قدر الله تعالى وما شاء فعل ويصبر ؛ وفي النعمة هكذا قضى وما أدري مآله هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر فلا يزال خائفا عند النعمة قائلا في الحالين ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن ، وأكمل من هذا أن يكون مسرورا بذكر ربه في كلتا الحالتين ، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة فمن لم يتغير بالمضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته كما أشار إليه القشيري ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا وغنيمته شكرا والحزن والفرح المنهي عنهما
__________________
(١) أخرجه البخاري في المرض حديث ٥٦٧٣ ، ومسلم في القيامة حديث ٢٨١٦ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٠١.
(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي. وأخرج العجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٣٧٤ ، حديثا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لابن مسعود : «لا يكثر همك ما يقدر يكن وما ترزق يأتك».