وأجيب عن الأوّل : بأنّ المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر فكذلك أيضا يوصف بهما الواجب.
عن الثاني : بأنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متصلتين في القول كما قيل في الآية الدالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشرا أنها ناسخة للاعتداد بحول وإن كان الناسخ متقدّما في التلاوة.
وعن علي أنه قال : «لما نزلت دعاني رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : ما تقول في دينار؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : كم؟ قلت : حبة أو شعيرة قال إنك لزهيد فلما رأوا ذلك اشتدّ عليهم فارتدعوا ، أما الفقير فلعسرته وأما الغنيّ فلشحته» (١) واختلف في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية ، فقال الكلبي : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من نهار ثم نسخ وقال مقاتل وابن حبان : بقي ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ لما روي عن عليّ أنه قال إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم. وفي رواية عنه فاشتريت به عشرة دراهم وكلما ناجيت النبيّ صلىاللهعليهوسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا فلم يناج أحد إلا علي تصدّق بدينار ، وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند المناجاة شيئا أو أن لا يكون احتاج إلى المناجاة ثم نزلت الرخصة.
وعن ابن عمر رضي الله عنه كان لعليّ ثلاث لو كان لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى.
واختلف في الناسخ لذلك فقيل : هي منسوخة بالزكاة وأكثر المفسرين أنها منسوخة بالآية التي بعدها وهي (أَأَشْفَقْتُمْ) كما سيأتي وكان عليّ يقول : وخفف عن هذه الأمة (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) أي : ما تقدّمونه (فَإِنَّ اللهَ) أي الذي له جميع صفات الكمال (غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : له صفتا الستر للمساوي والإكرام بإظهار المحاسن على الدوام فهو يعفو ويرحم تارة يقدّم العقاب للعاصي وتارة بالتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف.
وقوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ) أي : خفتم العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفا كاد أن يفطر قلوبكم (أَنْ تُقَدِّمُوا) أي : بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم (بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) أي : النبيّ صلىاللهعليهوسلم (صَدَقاتٍ) وجمع ؛ لأنه أكثر توبيخا من حيث إنه يدل على أنّ النجوى تتكرّر استفهام معناه التقرير وهو الناسخ عند الأكثر كما مرّ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام : بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام ، وأدخل بينهما الفاء قالون وأبو عمرو وهشام ، والباقون بتحقيقهما ولا إدخال والأولى محققة بلا خلاف (فَإِذْ) أي : فحين (لَمْ تَفْعَلُوا) أي : ما أمرتكم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق (وَتابَ اللهُ) أي : الملك الأعلى (عَلَيْكُمْ) أي : رجع بكم عنها بأن نسخها عنكم تخفيفا عليكم (فَأَقِيمُوا) أي :
__________________
(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٠٠ ، والطبراني في المعجم الكبير ١ / ١٠٩ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٢٢ ، والطبري في تفسيره ٢٨ / ١١.