بسبب العفو عنكم شكرا أي : على هذا الكرم والحلم (الصَّلاةَ) التي هي طهرة لأرواحكم وصلة لكم بربكم (وَآتُوا الزَّكاةَ) التي هي براءة لأبدانكم وتطهير ونماء لأموالكم وصلة لكم بإخوانكم ، ولا تفرّطوا في شيء من ذلك فتهملوه فالصلاة نور يهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية ويعين على نوائب الدارين ، والصدقة برهان على صحة القصد في الصلاة.
ثم عمم بعد أن خصص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية بقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ) أي : الذي له الكمال كله (وَرَسُولَهُ) أي : الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمرانكم به ، فإنه تعالى ما أمركم لأجل إكرام رسولكم صلىاللهعليهوسلم إلا بالحنيفية السمحة (وَاللهُ) أي : الذي أحاط بكل شيء علما وقدرة (خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : يعلم بواطنكم كما يعلم ظواهركم لا تخفى عليه خافية.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))
(أَلَمْ تَرَ) أي : تنظر يا أشرف الخلق (إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا) أي : تكلفوا بغاية جهدهم وهم المنافقون أي جعلوا أولياءهم الذين يتولون لهم أمورهم (قَوْماً) وهم اليهود ابتغوا عندهم العزة اغترارا بما يظهر لهم منهم من القوة (غَضِبَ اللهُ) أي : الملك الأعلى الذي لا ندّله (عَلَيْهِمْ) أي : المتولى والمتولي لهم (ما هُمْ) أي : المنافقون (مِنْكُمْ) أي : المؤمنين (وَلا مِنْهُمْ) أي : اليهود بل هم مذبذبون وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء بقوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ) أي : المنافقون يجدّدون الحلف على الاستمرار ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجراءة على استمرارهم على الأيمان الكاذبة بأنّ التقدير مجترئين (عَلَى الْكَذِبِ) في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون متعمدون.
روي «أنّ عبد الله بن نبتل كان يجالس رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل ابن نبتل وكان أزرق العينين أسمر قصيرا خفيف اللحية ، فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : فعلت فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت» (١).
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ٦ / ٤٣ ، ١٧ / ٣٠٤ ، والبغوي في تفسيره ٥ / ٤٩.