فأبى ، فبنوا صومعة على ما أمرهم به الأبيض ، ووضعوا الجارية في صومعتها ، وقالوا : يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها ، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا من صلاته عاين الجارية ، وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه ، ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا ، فجاء الشيطان وقال : ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك ، ويتم لك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها ، فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب ، فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها ولم أقو عليه ، فدخل فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل ، فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجا من التراب ، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته ؛ إذ جاء إخوتها يتعهدون أختهم ، وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها ، فلما لم يجدوها قالوا : يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال : قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه ، فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا مكروبين جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال : ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا ، وإنه دفنها في موضع كذا وكذا ، فقال الأخ : هذا حلم وهو من عمل الشيطان ، برصيصا خير من ذلك فتابع عليه ثلاث ليال ، فلم يكترث فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك ، فقال الأوسط له ما قال الأكبر ولم يخبر به أحدا ، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك ، فقال الأصغر لأخويه : والله لقد رأيت كذا وكذا ، فقال الأوسط : أنا والله رأيت مثله ، وقال الأكبر : أنا والله رأيت مثله. فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا له : ما فعلت بأختنا؟ فقال : أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني ، فقالوا : والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا ، فجاءهم الشيطان ، وقال : ويحكم إنها مدفونة في موضع كذا وكذا ، وإن طرف إزارها خارج من التراب. فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم فذهبوا إليه ومعهم غلمانهم ومواليهم بالفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا ، وأنزلوه منها وكتفوه ثم أتوا به إلى الملك فأقرّ على نفسه ، وذلك أنّ الشيطان أتاه فقال : تقتلها ، ثم تكابر فيجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة ، فلما صلب أتاه الأبيض فقال : يا برصيصا تعرفني ، قال : لا ، قال : أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك ويحك أما اتقيت الله تعالى في الأمانة خنت أهلها ، وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل ، أما استحيت فلم يزل يعيره ، ثم قال : ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وأشباهك من الناس ، فإن مت على هذه الحالة فلم يفلح أحد من نظائرك ، قال : فكيف أصنع؟ قال : تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه ، فآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك ، قال : وما هي؟ قال : تسجد لي ، قال : أفعل فسجد له فقال : يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني بريء منك».
(إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، والباقون بسكونها (رَبَّ الْعالَمِينَ) أي : الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا ، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيأ إلا بإذنه.
(فَكانَ) أي : فتسبب عن قوله ذلك أنه كان (عاقِبَتَهُما) أي : الغار والمغرور (أَنَّهُما فِي النَّارِ) حال كونهما (خالِدَيْنِ فِيها) لأنهما ظلما ظلما لا فلاح معه (وَذلِكَ) أي : العذاب الأكبر