المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد ، قال معناه الزمخشري (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا (خَبِيرٌ) أي عظيم الاطلاع على ظواهركم وبواطنكم والإحاطة (بِما تَعْمَلُونَ) فلا تعملون عملا إلا كان بمرأى من ومسمع فاسحيوا منه.
(وَلا تَكُونُوا) أيها المحتاجون إلى التحذير وهم الذين آمنوا (كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي : أعرضوا عن أوامر ونواهي الملك الأعظم ، وتركوهها ترك الناسين لمن برزت عنه مع ما له من صفات الجلال والإكرام (فَأَنْساهُمْ) أي : فتسبب عن ذلك أن أنساهم بما له من الإحاطة بالظواهر والبواطن (أَنْفُسَهُمْ) أي : فلم يقدموا لها ما ينفعها ، وإن قدموا شيئا كان مشوبا بالمفسدات من الرياء والعجب فكانوا ممن قال فيه تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) [الغاشية ، الآيتان : ٢ ـ ٣] الآية لأنهم لم يدعوا بابا من أبواب الفسق ، فإنّ رأس الفسق الجهل بالله ، ورأس العلم ومفتاح الحكمة معرفة النفس فأعرف الناس بنفسه أعرفهم بربه (أُولئِكَ) أي : البعداء من كل خير (هُمُ الْفاسِقُونَ) أي : العريقون في المروق من دائرة الدين.
(لا يَسْتَوِي) أي : بوجه من الوجوه (أَصْحابُ النَّارِ) أي : التي هي محل الشقاء الأعظم (وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي : التي هي دار النعيم الأكبر لا في الدنيا ولا في الآخرة ، واستدل بهذه الآية على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي : الناجون من كل مكروه المدركون لكل محبوب ، وأصحاب النار هم الهالكون في الدارين كما وقع في هذه الغزوة لفريقي المؤمنين وبني النضير ومن والاهم من المنافقين فشتان ما بينهما.
(لَوْ أَنْزَلْنا) أي : بعظمتنا التي أبانها هذا الإنزال (هذَا الْقُرْآنَ) أي : الجامع لجميع العلوم الفارق بين كل ملتبس المبين لجميع الحكم (عَلى جَبَلٍ) أي جبل كان ، أو جبل فيه تمييز كالإنسان (لَرَأَيْتَهُ) يا أشرف الخلق وإن لم يتأهل غيرك لتلك الرؤية (خاشِعاً) أي : متذللا باكيا (مُتَصَدِّعاً) أي : متشققا غاية التشقق (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي : من الخوف العظيم ممن له الكمال كله ، وفي هذا حث على تأمّل مواعظ القرآن وتدبر آياته (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) أي : التي لا يضاهيها شيء (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيؤمنون.
والمعنى : أنا لو أنزلنا هذا القرآن على الجبل لخشع لوعده ، وتصدع لوعيده ، وأنتم أيها المشهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده ، والغرض من هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم ، ونظيره (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] وقيل الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، أي : لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدّع من نزوله عليه ، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له فيكون ذلك امتنانا عليه أن ثبته لما لم تثبت له الجبال.
وقيل : إنه خطاب للأمة ، والمعنى : لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله تعالى ، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتا فهو يقوم بحقه إن أطاع ، ويقدر على ردّه إن عصى لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب.
ولما وصف تعالى القرآن بالعظم ، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف أتبع ذلك بوصف عظمته تعالى ، فقال عز من قائل : (هُوَ) أي : الذي وجوده من ذاته فلا عدم له بوجه من الوجوه ، فلا شيء يستحق الوصف بهو غيره لأنه الموجود دائما أزلا وأبدا فهو حاضر في كل ضمير