الفاء وفتح الصاد مشددة ، وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما يكسران الصاد ، والباقون بضم الياء وسكون الفاء (بَيْنَكُمْ) أي : أيها الناس فيدخل من يشاء من أهل طاعته الجنة ، ومن يشاء من أهل معصيته النار فلا ينفع أحد أحدا منكم بشيء من الأشياء ، إلا إن كان قد أتى الله تعالى بقلب سليم فيأذن الله تعالى في إكرامه بذلك (وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة التامّة (بِما تَعْمَلُونَ) أي : من كل عمل في كل وقت (بَصِيرٌ) فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة.
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧))
ولما نهى تعالى عن موالاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأنّ من سيرته التبري من الكفار بقوله تعالى : (قَدْ كانَتْ) أي : وجدت وجودا تامّا ، وكأنّ تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها ، ولو كانت على أدنى الوجوه (لَكُمْ) أي : أيها المؤمنون (أُسْوَةٌ) أي موضع اقتداء وتأسية في إبراهيم وطريقة مرضية. وقرأ أسوة في الموضعين عاصم بضم الهمزة ، والباقون بكسرها (حَسَنَةٌ) أي : يرغب فيها (فِي إِبْراهِيمَ) أي : في قول أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي : ممن كان قبله من الأنبياء. قاله القشيري : وممن آمن به في زمانه كابن أخته لوط عليه الصلاة والسلام ، وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة ، وقيل : المراد بمن معه أصحابه من المؤمنين. وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها ، والباقون بكسر الهاء وبعدها ياء أي : فاقتدوا به إلا في استغفاره لأبيه.
قال القرطبي : الآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في فعله ، وذلك يدل على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله ، وقيل : إنه شرع لنا إذا ورد في شرعنا ما يقرره ، وقيل : ليس بشرع لنا مطلقا وهو الأصح عندنا (إِذْ) أي : حين (قالُوا) وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف (لِقَوْمِهِمْ) أي : الكفرة وقد كانوا أكثر من عدوّكم وأقوى ، وكان لهم فيهم أرحام وقرابات ، ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات (إِنَّا بُرَآؤُا) أي : متبرؤون تبرئة عظيمة (مِنْكُمْ) وإن كنتم أقرب الناس إلينا ، ولا ناصر لنا منهم غيركم (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ) أي : توجدون عبادته في وقت من الأوقات (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : الملك الأعظم (كَفَرْنا بِكُمْ) أي : جحدناكم وأنكرنا دينكم (وَبَدا) أي : ظهر ظهورا عظيما (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ) وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل أحد على الآخر (وَالْبَغْضاءُ) وهي المباينة بالقلوب للبغض العظيم.
ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا : (أَبَداً) أي : على الدوام. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد المضمومة واوا خالصة ، والباقون بتحقيقها وهم على مراتبهم في المدّ ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفا مع المدّ والتوسط والقصر ، ولهما أيضا التسهيل مع المدّ والقصر والروم معهما. ولما كان ذلك مؤيسا من صلاح الحال ، وقد