والالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) أي : عن أوطانكم ، وقوله تعالى : (جِهاداً فِي سَبِيلِي) أي : بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها (وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي : ولأجل تطلبكم أعظم الرغبة لرضاي علة للخروج ، وعمدة للتعليق ، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه لا تتخذوا. وقرأ الكسائي بالإمالة محضة ، والباقون بالفتح. وقوله تعالى : (تُسِرُّونَ) أي : توجدون جميع ما يدل على مناصحتكم إياهم والتودّد (إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي : بسببها بدل من تلقون قاله ابن عطية. قال ابن عادل : ويشبه أن يكون بدل اشتمال لأنّ القاء المودّة يكون سرّا وجهرا ، أو استئناف واقتصر عليه الزمخشري (وَأَنَا) أي : والحال أني (أَعْلَمُ) أي : من كل أحد حتى من نفس الفاعل ، وقرأ نافع بمدّ الألف بعد النون (بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) قال ابن عباس : بما أخفيتم قي صدوركم وما أظهرتم بألسنتكم ، أي : فأي فائدة لإسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به ، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة (وَمَنْ يَفْعَلْهُ) أي : يوجد أسرار خبر إليهم ويكاتبهم (مِنْكُمْ) أي : في وقت من الأوقات (فَقَدْ ضَلَ) أي : عمي ومال وأخطأ (سَواءَ السَّبِيلِ) أي : قويم الطريق الواسع الموصل إلى القصد قويمه وعدله. قال القرطبي : هذا كله معاتبة لحاطب ، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وصدق إيمانه فإنّ المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب ، كما قال القائل (١) :
إذا ذهب العتاب فليس ودّ |
|
ويبقى الودّ ما بقي العتاب |
وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد ، والباقون بالإدغام.
(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) أي : يظفروا بكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي : ولا ينفعكم إلقاء المودّة إليهم (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ) أي : خاصة ، وإن كان هناك في ذلك الوقت من غير من قتل أعز الناس عليهم (أَيْدِيَهُمْ) أي : بالضرب أن استطاعوا (وَأَلْسِنَتَهُمْ) أي : بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما تجرّع من آخر من الغصص حتى أوجب له غاية السفه (بِالسُّوءِ) أي : بكل ما من شأنه أن يسوء (وَوَدُّوا) أي : تمنوا قبل هذا (لَوْ تَكْفُرُونَ) لأنّ مصيبة الدين أعظم فهو إليها أسرع ، لأنّ دأب العدوّ القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوّه ، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه ، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال ، وقدم الأوّل لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكى.
ولما كانت عداوتهم معروفة ، وإنما غطاها محبة القرابات لأنّ الحب للشيء يعمي ويصم فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالهم ، فقال تعالى مستأنفا إعلاما بأنها خطأ على كل حال : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ) بوجه من الوجوه (أَرْحامُكُمْ) أي : قراباتكم الحاملة لكم على رحمتكم والعطف عليهم (وَلا أَوْلادُكُمْ) أي : الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله تعالى لأجلهم ، فينبغي أن لا تعدّوا قربهم منكم بوجه أصلا ، ثم علل ذلك وبينه بقوله تعالى : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : القيام الأعظم (يَفْصِلُ) أي : يوقع الفصل ، وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب. وقرأ عاصم بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة ، وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (عتب) ، وكتاب العين ٢ / ٧٦ ، ومقاييس اللغة ٤ / ٢٢٧ ، وكتاب الجيم ٢ / ٢٩١ ، وتاج العروس (عتب) ، والعقد الفريد ٢ / ٣١٠ ، ٤ / ٢٣٠.