تنبيه : قوله تعالى : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) استفهام على وجه الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله ، إما في الماضي فيكون كذبا ، وإما في المستقبل فيكون خلقا وكلاهما مذموم. قال الزمخشري : لم هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : بم ، وفيم ، ومم ، وعم ، وإلام ، وعلام ، وإنما حذفت الألف لأن ما والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالهما كثيرا في كلام المستفهم ، وقد جاء استعمال الأصل قليلا والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان. ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف كما سمع ثلاثة أربعة بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ا. ه. ووقف البزي لمه بهاء السكت بخلاف عنه.
(كَبُرَ) أي : عظم. وقوله تعالى : (مَقْتاً) تمييز ، والمقت أشد البغض ، وزاد في تشنيعه زيادة في التنفير منه بقوله تعالى : (عِنْدَ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي يحقر عنده كل متعاظم ، وقيل : إن كبر من أمثلة التعجب. وقد عده ابن عصفور في التعجب المبوب له في النحو فقال : صيغة ما أفعله وأفعل به ، وفعل ، نحو كرم الرجل ، وإليه نحا الزمخشري فقال : هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه قصد في كبر التعجب من غير لفظه ، كقوله : غلت ناب كليب بواؤها ، ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله. وقوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا) أي : عظم من تلك الجهة أن يقع في وقت من الأوقات ، أو حال من الأحوال قولكم (ما لا تَفْعَلُونَ) فاعل كبر.
قال الرازي : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن في السورة التي قبلها بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته بقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) [الممتحنة : ١] وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن ويحثه على الجهاد بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له جميع صفات الكمال (يُحِبُ) أي : يفعل فعل المحب مع (الَّذِينَ يُقاتِلُونَ) أي : يوقعون القتال (فِي سَبِيلِهِ) أي : بسبب تسهيل طريقه الموصلة إلى رضاه. وقوله تعالى : (صَفًّا) حال ، أي : مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد (كَأَنَّهُمْ) من شدة التراص والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في المركز (بُنْيانٌ) وزاد في التأكيد بقوله تعالى : (مَرْصُوصٌ) أي : ملزوق بعض إلى بعض ثابت كثبوت البناء.
وقال ابن عباس : يوضع الحجر على الحجر ، ثم يرص بأحجار صغار ، ثم يوضع اللبن عليه فيسميه أهل مكة المرصوص. وقال الرازي : يجوز أن يكون المعنى على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم ، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص قال القرطبي : استدل بعضهم بهذه الآية على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس ، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. قال المهدوي : وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة ، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية لأن معناها الثبات ، ولهذا يحرم الخروج من الصف إن قاومناهم إلا متحرفا لقتال ، كمن ينصرف ليكمن في موضع ويهجم ، أو ينصرف من مضيق ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال ، أو متحيز إلى فئة يستنجد بها ولو بعيدة قليلة أو كثيرة ، فيجوز انصرافه لقوله تعالى : (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) [الأنفال : ١٦] وتجوز المبارزة لكافر لم يطلبها بلا كره ، وندب