الخطيب المغالي في ذلك لاغيا نعوذ بالله من غربة الإسلام ، ومن نكد الأيام وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفا لهم وتكريما ، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ثم خصه بالنداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ليدل على وجوبه وتأكد فرضه. وقال بعض العلماء : كون الصلاة الجمعة ههنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ ، وقال ابن العربي : وعندي إنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة ، وهي قوله تعالى : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) وذلك يفيده لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة ، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام ، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى فلا فائدة فيه.
واختلف في معنى قوله تعالى : (فَاسْعَوْا) أي : لتكونوا أولياء الله ولا تتهاونوا في ذلك. فقال الحسن : والله ما هو سعي على الأقدام ، ولكن سعي بالقلوب والنية ، وقال الجمهور : السعي : العمل لقوله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الإسراء : ١٩] كقوله تعالى : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل : ٤] وقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] وعن أبي هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، ولكن أئتوها تمشون وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (١) واختلفوا أيضا : في معنى قوله تعالى : (إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي : الملك الأعظم ، فقال سعيد بن المسيب : هو موعظة الإمام ، وقال غيره : الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك.
ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة قال تعالى ناهيا عن تجارة الدنيا التي تعوق عن الجمعة (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي : اتركوا البيع والشراء ؛ لأن اسم البيع يتناولهما جميعا ، وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني. وقال الزهري : عند خروج الإمام ، وقال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء. وإنما خص البيع من بين الأمور الشاغلة عن ذكر الله تعالى ، لأن يوم الجمعة يوم تهبط الناس فيه من بواديهم وقراهم ، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم ، واختصاص الأسواق إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى ، ودنا وقت الظهيرة وحينئذ تنجز التجارة ويتكاثر البيع والشراء ، فلما كان ذلك الوقت مظنة للذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد قيل : بادروا تجارة الآخرة ، واتركوا تجارة الدنيا ، واسعوا إلى ذكر الله (ذلِكُمْ) أي : الأمر العالي الرتبة من فعل السعي ، وترك الاشتغال بالدنيا (خَيْرٌ لَكُمْ) لأن الأمر الذي أمركم به الذي له الأمر كله ، وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم.
فإن قيل : إذا كان البيع في هذا الوقت محرما فهل هو فاسد؟.
أجيب : بأن عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع ، قالوا : لأن البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة ، والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب ، وعن بعض الناس أنه فاسد. وزاد في الحث على ذلك بقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ) أي : بما هو لكم كالجبلة (تَعْلَمُونَ) أي : يتجدد لكم علم في يوم من الأيام
__________________
(١) أخرجه البخاري في الجمعة باب ١٨ ، ومسلم في المساجد حديث ٦٠٢ ، وأبو داود في الصلاة باب ٥٤ ، والترمذي في الصلاة حديث ٣٢٧ ، والنسائي في الإمامة حديث ٨٦١ ، وابن ماجه في المساجد حديث ٧٧٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٧ ، ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، ٢٧٠ ، ٣٨٢ ، ٤٢٧ ، ٤٥٢ ، ٤٦٠ ، ٥٢٩.