الزبانية لهم (فَوْجٌ) أي : جماعة في غاية الإسراع ، والأفواج الجماعات في تفرقة ومنه قوله تعالى : (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) [النبأ : ١٨] والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار (سَأَلَهُمْ) أي : ذلك الفوج (خَزَنَتُها) أي : النار وهم مالك وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أي : في الدنيا (نَذِيرٌ) أي : رسول يخوفكم هذا اليوم حتى تحذروا. قال الزجاج : وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب.
(قالُوا بَلى) قرأه حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح والوقف عليها كما في الوصل (قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) أي : محذر بليغ التحذير.
تنبيه : في ذلك دليل على جواز الجمع بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها إذ لو قالوا : بلى لفهم المعنى ، ولكنهم أظهروه تحسرا وزيادة في نقمتهم على تفريطهم في قبول قول النذير وليعطفوا عليه قولهم (فَكَذَّبْنا) أي : فتسبب عن مجيئه أنا أوقعنا التكذيب بكل ما قاله النذير (وَقُلْنا) أي : زيادة في التكذيب (ما نَزَّلَ اللهُ) أي : الذي له الكمال كله عليكم ولا على غيركم (مِنْ شَيْءٍ) لا وحيا ولا غيره وما كفانا هذا الفجور حتى قلنا مؤكدين : (إِنْ) أي : ما (أَنْتُمْ) أي : أيها النذر المذكورون في نذير ، المراد به الجنس (إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي : بعد عن الطريق (كَبِيرٍ) فبالغنا في التكذيب والسفه بالاستجهال والاستخفاف. وقيل : قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) من كلام الملائكة للكفار حين أخبروا بالتكذيب.
(وَقالُوا) أي : الكفار زيادة في توبيخ أنفسهم (لَوْ كُنَّا) أي : بما لنا من الغريزة (نَسْمَعُ) أي : كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقهم بالمعجزات (أَوْ نَعْقِلُ) أي : بما أدته إلينا حاسة السمع فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين (ما كُنَّا) أي : كونا دائما (فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي : في عداد من أعدت له النار التي هي في غاية الإيقاد.
تنبيه : في الآية أعظم فضيلة للعقل ، روي عن أبي سعيد الخدري أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قول الفجار : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ» (١) الآية.
(فَاعْتَرَفُوا) أي : بالغوا في الاعتراف حيث لا ينفعهم الاعتراف (بِذَنْبِهِمْ) أي : في دار الجزاء كما بالغوا في التكذيب في دار العمل ، والذنب لم يجمع لأنه في الأصل مصدر والمراد به تكذيب الرسل (فَسُحْقاً) أي : فبعدا لهم من رحمة الله تعالى وهو دعاء عليهم مستجاب (لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي : الذين قضت عليهم أعمالهم بملازمتها ، وقال سعيد بن جبير وأبو صالح : هو واد في جهنم يقال : له السحق ، وقرأ الكسائي بضم الحاء والباقون بسكونها.
ولما ذكر أصحاب السعير أتبعهم ذكر أضدادهم بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ) أي : يخافون (رَبَّهُمْ) أي : المحسن إليهم خوفا أرق قلوبهم وأرق أعينهم بحيث لا يقر لهم قرار من توقعهم العقوبة كلما ازدادوا طاعة ازدادوا خشية (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون : ٦٠]. (بِالْغَيْبِ) أي : حال كونهم غائبين عن عذابه سبحانه ، أو وعيده غائبا عنهم أو وهم غائبون عن أعين الناس فهم مع الناس يتكلمون وقلوبهم تتلظى بنيران الخوف وتتكلم بسيوف الهيبة فيتركون
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٤٥٦ ، والسيوطي في الحاوي للفتاوى ٢ / ٩٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٨٩٢٤ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٣٠٦.