المعصية حيث لا يراهم أحد من الناس ولا يكون لهم هذا إلا برياضة عظيمة ، فعلى العاقل أن يطوع نفسه لترجع مطمئنة بأن ترضى بالله ربا لتدخل في رق العبودية ، وبالإسلام دينا ليصير غريقا فيها ، فلا ينازع الملك في ردائه الكبرياء وإزاره العظمة وتاجه الجلال وحلته الجمال ، ولا ينازعه فيما يدبره من الشرائع ويظهره من المعارف ويحكم به على عبيده من قضائه وقدره. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي : عظيمة تأتي على جميع ذنوبهم (وَأَجْرٌ) أي : من فضل الله تعالى (كَبِيرٌ) يكون لهم به من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الإيلام ويصغر في جنبه لذائذ الدنيا العظام.
(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))
(وَأَسِرُّوا) أي : أيها الخلائق (قَوْلَكُمْ) أي : خيرا كان أو شرا (أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) فإنه يعلمه ويجازيكم به ، اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخير ، يعني : إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلىاللهعليهوسلم أو غيره أو جهرتم به فسواء (إِنَّهُ) أي : ربكم (عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم (بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بحقيقتها وكنهها وحالها وجبلتها وما يحدث عنها من الخير والشر وقال ابن عباس : «نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي صلىاللهعليهوسلم فيخبره جبريل عليهالسلام فقال : بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد» (١). فأسروا قولكم أو اجهروا به يعني : وأسروا قولكم في محمد صلىاللهعليهوسلم وقال غيره : إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال ، والمراد أن قولكم وعملكم على أيّ سبيل وجد فالحال واحد في علمه تعالى ، فاحذروا من المعاصي سرا كما تحذرون عنها جهرا فإنّ ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى.
ولما قال تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ذكر الدليل على أنه عالم فقال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) أي : من خلق لا بدّ وأن يكون عالما بما خلقه ، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد ، والقاصد إلى الشيء لا بد وأن يكون عالما بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية. والمعنى : ألا يعلم السر من خلق السر ، يقول : أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالما بما في
__________________
(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٨ / ٢٠٤.