تنبيه : استدل أهل السنة على أن فعل العبد خلق لله تعالى بقوله سبحانه : (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) لأن الصلاح إنما حصل بجعل الله تعالى وخلقه ، وقال الجبائي : يحتمل أن يكون معنى جعل أنه أخبر بذلك ، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني ، والجواب : أن ذلك مجاز والأصل في الكلام الحقيقة.
(وَإِنْ) هي المخففة ، أي : وإنه (يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل ، وأظهر موضع الإضمار تعميما وتعليقا للحكم بالوصف.
ولما كانت إن مخففة أتى باللام التي هي علمها فقال : (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) أي : ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد أن يصرعك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح لما يتراءى في عيونهم ، أو يهلكونك من قولهم : نظر إلي نظرا يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أي : لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعل قال القائل (١) :
يتقارضون إذا التقوا في موطن |
|
نظرا يزل مواطئ الأقدام |
وقيل : أرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش ، وقالوا : ما رأينا مثله ولا مثل حجمه ، وقيل : كانت العين في بني إسرائيل فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول : لم أر كاليوم مثله إلا عانه حتى أن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ، ثم يقول : يا جارية خذي المكتل والدرهم ، فائتينا من لحم هذه الناقة فما تبرح الناقة حتى تقع للموت فتنحر. وقال الكلبي : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئا يومين أو ثلاثة ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم ، فيقول : لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فلا تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة هالكة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلىاللهعليهوسلم بالعين فأجابهم ، فلما مر النبي صلىاللهعليهوسلم أنشد (٢) :
قد كان قومك يحسبونك سيدا |
|
وأخال أنك سيد معيون |
فعصم الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم ونزلت هذه الآية ، وذكر الماوردي أن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحدا بعين في نفسه أو ماله يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله فيقول : تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكبر منه ولا أحسن ، فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو نعيم أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» (٣). وعن أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم قال : «نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين» (٤). وقال الحسن : دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية ، وقرأ نافع
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (قرض) ، (زلق) ، وتاج العروس (قرض) ، (زلق) ، وتهذيب اللغة ٨ / ٣٤٢ ، ٤٣٢ ، ومقاييس اللغة ٣ / ٢١.
(٢) البيت من الكامل ، وهو للعباس بن مرداس في ديوانه ص ١٠٨ ، وجمهرة اللغة ص ٩٥٦ ، والحيوان ٢ / ١٤٢ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٩٥ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٨٧ ، ولسان العرب (عين) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٧٤.
(٣) أخرجه القرطبي في تفسيره ٩ / ٢٢٦ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٦ / ٢٤٠٣.
(٤) أخرجه مسلم في السلام حديث ٢١٨٨ ، والترمذي في الطب حديث ٢٠٥٩ ، وابن ماجه في الطب حديث ٣٥١٠ ، ومالك في العين حديث ٣ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٥٤ ، ٣٤٧ ، ٣٦٠ ، ٦ / ٤٣٨.