ذمه الله تعالى عليه؟ أجيب : بأنه إنما ذمه عليه لقصور نظره على الأمور العاجلة ، والواجب عليه أن يكون شاكرا راضيا في كل حال.
وقوله تعالى : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) استثناء للموصوفين بالصفات الآتية من المطبوعين على الأحوال المذكورة قبل مضادّة تلك الصفات لها من حيث إنها دالة على الاستغراق في طاعة الحق ، والإشفاق على الخلق ، والإيمان بالجزاء ، والخوف من العقوبة ، وكسر الشهوة ، وإيثار العاجل على الآجل ، وتلك ناشئة عن الانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليها (الَّذِينَ هُمْ) أي : بكلية ضمائرهم وظواهرهم (عَلى صَلاتِهِمْ) أي : التي هي معظم دينهم وهي النافعة لهم لا لغيرهم بما أفادته الإضافة ، والمراد الجنس الشامل لجميع الأنواع إلا أن معظم المقصود الفرض ، ولذلك عبر بالاسم الدال على الثبات في قوله تعالى : (دائِمُونَ) أي : لا فتور لهم عنها ولا انفكاك لهم منها ، وقال عقبة بن عامر : هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا ، والدائم : الساكن ، ومنه نهي عن البول في الماء الدائم (١) ، أي : الساكن. وقال ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التطوع منها.
فإن قيل : كيف قال تعالى : (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) وقال تعالى في موضع آخر : (عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) [الأنعام : ٩٢]؟ أجيب : بأن دوامهم عليها أن لا يتركوها في وقت ، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها حتى تأتي على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها ، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجد الشريفة ، وفي تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة ، وأن لا يلتفت يمينا ولا شمالا ، وأن يكون حاضر القلب فاهما للأذكار ، مطلعا على حكم الصلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلاة.
ولما ذكر تعالى زكاة الروح أتبعه زكاة عديلها ، فقال تعالى مبينا للرسوخ في الوصف بالعطف بالواو : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ) التي منّ الله سبحانه بها عليهم (حَقٌّ مَعْلُومٌ) أي : من الزكوات وجميع النفقات الواجبة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق (لِلسَّائِلِ) أي : الذي يسأل (وَالْمَحْرُومِ) أي : الذي لا يسأل ، فيحسب غنيا فيحرم فهو يتلظى بناره في ليله ونهاره ، ولا مفزع له بعد ربه المالك لعلانيته وسره إلا إلى إفاضة مدامعه بذلة وانكسار ، وهذا من الله تعالى حث على تفقد أرباب الضرورات ممن لا كسب له ومن افتقر بعد الغنى ، وقد كان للسلف الصالح في هذا قصب السبق ، حكي عن زين العابدين أنه لما مات وجد في ظهره آثار سواد كأنها السيور ، فعجبوا منها فقال بعد موته نسوة أرامل : كان شخص يأتي إلينا ليلا بقرب الماء على ظهره وأجربة الدقيق ففقدناه واحتجنا ، فعلموا أنه هو وأن تلك السيور من ذلك ، وحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أن شخصا رآه ماشيا في زمن خلافته في الليل فتبعه ، فجاء إلى بيت نسوة أرامل فقال : أعندكن ماء وإلا املأ لكنّ ، فأعطينه جرة فأخذها
__________________
(١) روي الحديث بلفظ : «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» أخرجه البخاري في الوضوء باب ٦٨ ، ومسلم في الطهارة حديث ٩٥ ، ٩٦ ، والترمذي في الطهارة باب ٥١ ، والنسائي في الطهارة باب ٤٥ ، والغسل باب ١ ، والدارمي في الوضوء باب ٤٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٩ ، ٢٦٥ ، ٣١٦ ، ٣٤٦ ، ٣٦٢ ، ٤٣٣ ، ٤٦٤ ، ٤٩٢ ، ٥٢٩.