(قالَ نُوحٌ) أي : بعد رفقه بهم ولينه لهم : (رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أمري (إِنَّهُمْ) أي : قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاما (عَصَوْنِي) أي : فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه ، فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشدّ شراد ، وخالفوني أقبح مخالفة.
(وَاتَّبَعُوا) أي : بغاية جهدهم نظرا إلى المظنون العاجل (مَنْ) أي : رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم ، وفسرهم بقوله تعالى : (لَمْ يَزِدْهُ) أي : شيئا من الأشياء (مالُهُ) أي :
كثرته (وَوَلَدُهُ) كذلك (إِلَّا خَساراً) أي : بالبعد من الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح الواوين واللام ، والباقون بضم الواو الثانية وإسكان اللام.
(وَمَكَرُوا) أي : هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني (مَكْراً) وزاده تأكيدا بصيغة هي النهاية في المبالغة بقوله : (كُبَّاراً) فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير ، واختلفوا في معنى مكرهم فقال ابن عباس : قالوا قولا عظيما. وقال الضحاك : افتروا على الله تعالى وكذبوا رسله. وقيل : منع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح عليهالسلام ، فلم يدعوا أحدا منهم بذلك المكر يتبعه وحرشوهم على قتله.
(وَقالُوا) أي : لهم (لا تَذَرُنَ) أي : تتركن (آلِهَتَكُمْ) أي : عبادتها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة ، وأضافوها إليهم تحبيبا فيها ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحا بالمقصود ، فقالوا مكرّرين اليمين والعامل تأكيدا : (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا) قرأ نافع بضم الواو والباقون بفتحها ، وأنشدوا بالوجهين قول الشاعر (١) :
حيال وودّ من هداك لقيته |
|
وحرض بأعلى ذي فضالة مسجد |
وقال القرطبي : قال الليث : ودّا بفتح الواو : صنم كان لقوم نوح ، وودّا بالضم : صنم لقريش وبه سمي عمرو بن ود. وفي الصحاح والودّ بالفتح : الوتد في لغة أهل نجد ، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال ا. ه. ثم أعادوا النفي تأكيدا فقالوا : (وَلا سُواعاً) وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا : (وَلا يَغُوثَ.) ولما بلغ التأكيد نهايته وعلم أنّ القصد النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع تركوا التأكيد في قولهم : (وَيَعُوقَ وَنَسْراً) للعلم بإرادته.
واختلف المفسرون في هذه الأسماء فقال ابن عباس وغيره : هي أصنام وصور كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب ، وهذا قول الجمهور ، وقيل : إنها للعرب لم يعبدها غيرهم ، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فلذلك خصوها بالذكر بعد قولهم : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) وقال عروة بن الزبير : اشتكى آدم عليهالسلام وعنده بنوه ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكان ودّ أكبرهم وأبرّهم به.
قال محمد بن كعب : كان لآدم عليهالسلام خمسة بنين : ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكانوا عبادا ، فمات رجل منهم فحزنوا عليه فقال الشيطان : أنا أصوّر لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه ، قالوا : افعل ، فصوّره في المسجد من صفر ورصاص ، ثم مات آخر فصوّره حتى ماتوا كلهم وصوّرهم وتناقصت الأشياء كما تناقصت اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين ، فقال
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.