فإن قيل : ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟ أجيب : بأنهم أغرقوا معهم لا على وجه العقاب ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت وكم منهم من يموت بالغرق والحرق وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى» (١).
وعن الحسن أنه سئل عن ذلك؟ فقال : علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. وقال محمد بن كعب ومقاتل : إنما قال هذا حين أخرج الله تعالى كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام أمّهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة ، وقيل : بسبعين سنة فأخبر الله تعالى نوحا عليهالسلام أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا كما قال تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم كلهم ، ولم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب لأنّ الله تعالى قال : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) [الفرقان : ٣٧] ولم يوجد التكذيب من الأطفال. وقال ابن عربي : دعا نوح عليهالسلام على الكافرين أجمعين ، ودعا النبيّ صلىاللهعليهوسلم على من تحزب على المؤمنين وكفى بهذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة ، وأمّا كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه ، لأنّ مآله عندنا مجهول ، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبيّ صلىاللهعليهوسلم عتبة وشيبة وأصحابه لعلمه بما لهم وما كشف الله له من الغطاء عن حالهم.
ولما كان الرسل عليهمالسلام لا يقولون ولا يفعلون إلا ما كان فيه مصلحة الدين علل دعاءه بقوله : (إِنَّكَ) أي : يا رب (إِنْ تَذَرْهُمْ) أي : تتركهم على أيّ حالة كانت في إبقائهم سالمين على وجه الأرض ولو كانت حالة دنيئة (يُضِلُّوا عِبادَكَ) أي : الذين آمنوا بك وبي والذين يولدون على الفطرة السليمة (وَلا يَلِدُوا) أي : إن قدرت بقاءهم (إِلَّا فاجِراً) أي : مارقا عن كل ما ينبغي الاعتصام به (كَفَّاراً) أي : بليغ الستر لما يجب إظهاره من آيات الله.
فإن قيل : بم علم أنّ أولادهم يكفرون وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ أجيب : بأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف طباعهم وأحوالهم ، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول : احذر من هذا فإنه كذاب ، وإنّ أبي حذرنيه ، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك ، وقد أخبر الله تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦]. ومعنى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً :) لم يلدوا إلا من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه كقوله صلىاللهعليهوسلم : «من قتل قتيلا فله سلبه» (٢).
ولما دعا على أعداء الله تعالى دعا لأوليائه وبدأ بنفسه فقال مسقط الأداة على عادة أهل الخصوص : (رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب من تجنبني (اغْفِرْ لِي) أي : فإنه لا يسعني ـ وإن كنت معصوما ـ إلا حلمك وعفوك ومغفرتك ، (وَلِوالِدَيَ) وكانا مؤمنين يريد أبويه اسم أبيه لمك بن متوشلخ ، وأمّه شمخا بنت أنوش. وعن ابن عباس : لم يكفر لنوح عليه
__________________
(١) أخرجه مسلم في الفتن حديث ٢٨٨٤.
(٢) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤٣٢٢ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٥١ ، وأبو داود في الجهاد حديث ٢٧١٧ ، والترمذي في السير حديث ١٥٦٢.