(وَمَهِّلْهُمْ) أي : اتركهم برفق وتأنّ وتدريج ولا تهتم بشأنهم. وقوله تعالى : (قَلِيلاً) نعت لمصدر ، أي : تمهيلا قليلا أو لظرف زمان محذوف أي زمانا قليلا فقتلوا بعد يسير ببدر.
وقوله تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) جمع نكل بالكسر وهو القيد الثقيل الذي لا ينفك أبدا وقال الكلبي : أغلالا من حديد (وَجَحِيماً) أي : نارا حامية جدّا شديدة الاتقاد مما كانوا يتقيدون به من تبريد الشراب والتنعم برقيق اللباس وتكلف أنواع الراحة.
(وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي : يغص به في الحلق وهو الزقوم أو الضريع أو الغسلين أو الشوك من نار لا يخرج ولا ينزل (وَعَذاباً أَلِيماً) أي : مؤلما. ومعنى الآية : أنّ لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا وهي هذه الأمور الأربعة : النكال والجحيم والطعام الذي يغص به والعذاب الأليم ، والمراد به سائر أنواع العذاب ، وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية فصعق.
وعن الحسن أنه أمسى صائما فأتي بطعام فعرضت له هذه الآية ، فقال : ارفعه ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال : ارفعه ، وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فجاؤوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.
وقوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ) منصوب بالاستقرار المتعلق به لدينا والرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة فتزلزل (الْأَرْضُ) أي : كلها (وَالْجِبالُ) أي : التي هي أشدّها (وَكانَتِ) أي : وتكون (الْجِبالُ) التي هي مراسي الأرض وأوتادها وعبر عن شدّة الاختلاط والتلاشي بالتوحيد ، فقال تعالى : (كَثِيباً) أي : رملا مجتمعا ، من كثب الشيء إذا جمعه ، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله ، ومنه الكثبة من اللبن (مَهِيلاً) قال ابن عباس : رملا سائلا يتناثر. وقال الكلبي : هو الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده. قال القرطبي : وأصله مهيول وهو مفعول من قولك هلت عليه التراب أهيله إهالة وهيلا إذا صببته ، يقال : مهيل ومهيول ، ومكيل ومكيول ومعين ومعيون. قال الشاعر (١) :
قد كان قومك يحسبونك سيدا |
|
وأخال أنك سيد معيون |
وقال عليه الصلاة والسلام حين شكوا إليه الجدوبة : «أتكيلون أم تهيلون»؟ قالوا : نهيل. قال : «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه» (٢).
وأصل مهيل مهيول استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الهاء فالتقى ساكنان ، فسيبويه وأتباعه حذفوا الواو ، وكانت أولى بالحذف لأنها زائدة ، وإن كانت القاعدة أنّ ما يحذف لالتقاء الساكنين الأوّل ، ثم كسروا الهاء لتصح الياء ، ووزنه حينئذ مفعل ، والكسائي ومن تبعه حذفوا الياء لأنّ القاعدة حذف الأوّل كما مرّ.
ولما خوّف تعالى المكذبين أولي النعمة بأهوال يوم القيامة خوّفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا فقال تعالى : (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ) يا أهل مكة شرفا لكم خاصة وإلى كل من بلغته الدعوة عامّة (رَسُولاً) أي : عظيما جدّا ، وهو محمد صلىاللهعليهوسلم خاتم النبيين وإمامهم وأجلهم
__________________
(١) البيت من الكامل ، وتقدم مع تخريجه.
(٢) أخرجه البخاري في البيوع حديث ٢١٢٨ ، وابن ماجه في التجارات حديث ٢٢٣١.