(كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي : ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من ذلك فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبيّ صلىاللهعليهوسلم وبين غيره.
فإن قيل : ما الفائدة في ولا تجهروا بعد لا ترفعوا؟.
أجيب : بأن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبيّ صلىاللهعليهوسلم وصوته والنهي عن الجهر منع من المساواة. أي لا تجهروا له بالقول كما تجهرون لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا ثم حذرهم بقوله تعالى : (أَنْ) أي : كراهة أن (تَحْبَطَ) أي : تفسد فتسقط (أَعْمالُكُمْ) التي هي الأعمال بالحقيقة ، وهي الحسنات كلها (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي : بأنها حبطت فإنّ ذلك إذا اجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف واظب عليه ، وإذا واظب عليه أو شك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر ، روى أنس بن مالك قال : «لما نزل قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) الآية جلس ثابت ابن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم فسأل النبيّ صلىاللهعليهوسلم سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال ثابت : نزلت هذه الآية وقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال بل هو من أهل الجنة» (١).
وروي لما نزلت هذه الآية «قعد ثابت في الطريق يبكي فمّر به عاصم بن عدي فقال : وما يبكيك يا ثابت. قال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وغلب ثابتا البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقال لها : إذا دخلت بيت فرشي فسدّي عليّ الضبة بمسمار فضربت عليه بمسمار وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأتى عاصم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبره خبره فقال : اذهب فادعه لي فجاءه عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش.
فقال له : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدعوك. فقال : اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له النبيّ صلىاللهعليهوسلم : ما يبكيك يا ثابت فقال : أنا ميت فأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم. أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة. فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم» (٢) فأنزل الله عزوجل.
(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ) أي : يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته قال الطبريّ وأصل الغض الكف في لين (أَصْواتَهُمْ) تخشعا وتخضعا ورعاية للأدب وتوقيرا (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام ، لأنه مبلغ عن الملك الأعظم وعبر بعند الذي للظاهر إشارة إلى أنّ أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب (أُولئِكَ) أي عالو الرتبة (الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ) أي : فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر (قُلُوبَهُمْ
__________________
(١) أخرجه بنحوه البخاري في المناقب حديث ٣٦١٣ ، وتفسير القرآن حديث ٤٨٤٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ١١٩.
(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٢ / ٦٨.