ولما كان سبحانه قد جعل للإنسان عقلا يدرك به الحسن والقبيح واختيارا يتمكن به من اتباع ما يريد فلم يبق له مانع من جهة اختيار الأصلح والأحسن إلا قهر المشيئة التي لا اطلاع له عليها ولا حيلة له فيها سبب عن ذلك قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ) أي : بغاية جهده (إِلى رَبِّهِ) أي : المحسن إليه خاصة لا إلى غيره (سَبِيلاً) أي : طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب فقد أمكن له ؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. قيل : نسخت بآية السيف ، وكذلك قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) [المدثر : ٥٥] قال الثعلبي : والأشبه أنه غير منسوخ.
(إِنَّ رَبَّكَ) أي : المدبر لأمرك على ما يكون إحسانا إليك ورفقا بك (يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) أي : في الصلاة كما أمرت به أوّل السورة (أَدْنى) أي : زمانا أقل والأدنى مشترك بين الأقرب والأدون الأنزل رتبة ؛ لأنّ كلا منهما يلزم عنه قلة المسافة. (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) وقرأ (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بنصب الفاء بعد الصاد ونصب المثلثة بعد اللام ورفع الهاء فيهما عطف على أدنى والباقون بكسر الفاء والمثلثة وكسر الهاء فيهما عطف على ضمير تقوم وقيامه كذلك مطابق لما وقع التخيير فيه أوّل السورة من قيام النصف بتمامه ، أو الناقص منه وهو الثلث ، أو الزائد عليه وهو الثلثان ، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع.
وقوله تعالى : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) عطف على ضمير تقوم ، وجاز من غير تأكيد للفصل وقيام طائفة من أصحابه كذلك للتأسي به ، ومنهم من كان لا يدري كم يصلي من الليل وكم بقي منه ، فكان يقوم الليل كله احتياطا فقاموا حتى انتفخت أقدامهم سنة وأكثر ، فخفف عنهم بقوله تعالى : (وَاللهُ) أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلما (يُقَدِّرُ) أي : تقديرا عظيما هو في غاية التحرير (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي : هو العالم بمقادير الليل والنهار ، فيعلم القدر الذي تقومون من الليل والذي تنامون منه.
(عَلِمَ أَنْ) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : أنّه (لَنْ تُحْصُوهُ) أي : الليل لتقوموا فيما يجب القيام فيه إلا بقيام جميعه ، وذلك يشق عليكم (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي : رجع بكم إلى التخفيف بالترخص لكم في ترك القيام المقدّر أوّل السورة.
وقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ) أي : سهل (مِنَ الْقُرْآنِ) فيه قولان :
أحدهما : أن المراد بهذه القراءة القراءة في الصلاة ، وذلك أنّ القراءة أحد أجزاء الصلاة فأطلق اسم الجزء على الكل ، والمعنى : فصلوا ما تيسر عليكم ، قال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء. قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أوّل ركعة بالحمد وأوّل آية من البقرة ثم ركع ، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ثم ركع ، فلما انصرف أقبل علينا ، فقال : إنّ الله تعالى يقول : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ.)
قال القشيري : والمشهور أنّ نسخ قيام الليل كان في حق الأمة ، وبقيت الفريضة في حق النبيّ صلىاللهعليهوسلم. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : بل نسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلا ، وإذا ثبت أنّ القيام ليس فرضا فقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) معناه : اقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم.
والقول الثاني : أنّ المراد بقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) دراسته وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان سواء كان في صلاة أم غيرها ، قال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من