الصبر (خَيْراً لَهُمْ) أي : من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة.
ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة. قال أبو عثمان : الأدب عند الأكابر يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الأولى والعقبى ا. ه فإنهم لو تأدّبوا لربهم لزادهم صلىاللهعليهوسلم في الفضل فأعتق جميع سبيهم وأطلقهم بلا فداء. (وَاللهُ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال (غَفُورٌ) أي : ستور ذنب من تاب من جهله (رَحِيمٌ) أي : يعاملهم معاملة الراحم ، فيسبغ عليهم نعمه. وقال قتادة : «نزلت في ناس من أعراب تميم جاؤوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فنادوا على الباب اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمّنا شين فخرج إليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين.
فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا. فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبيّ صلىاللهعليهوسلم قم فأجبه فأجابه. وقام شاعر فذكر أبياتا فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لحسان بن ثابت : أجبه فأجابه. فقام الأقرع بن حابس فقال : إنّ محمدا لمولى تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ثم دنا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما يضرّك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكساهم ، وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهيم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزل فيهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ)(١) الآيات الأربع إلى قوله تعالى : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال زيد بن أرقم جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكا نعش في جناحه. فجاؤوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات يا محمد. فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ) الآية وقيل : المراد بأكثرهم كلهم. لأنّ العرب تذكر الأكثر وتريد الكل احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام. لأنّ الكل ما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل.
ثم إنّ الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم وفيه إشارة إلى لطيفة ، وهي أنّ الله تعالى يقول مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحسانا لتلك العادة ، وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا قاطعا على رضاي بذلك منكم.
تنبيه : جعل الزمخشري أنهم من ولو أنهم فاعلا بفعل مقدر أي ولو ثبت صبرهم وجعل اسم كان ضميرا عائدا على هذا الفاعل. ولكن مذهب سيبويه أنها في محل رفع بالابتداء وحينئذ يكون اسم كان ضميرا عائدا على صبرهم المفهوم وجرى على الأوّل البيضاوي ، وعلى الثاني الجلال المحلي.
__________________
(١) انظر البغوي في تفسيره ٤ / ٢٥٥.