ثم ذكر ضد المكذبين بقوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي : الذين اتقوا الشرك لأنهم في مقابلة المكذبين (فِي ظِلالٍ) أي : تكاثف أشجار إذ لا شمس يظل من حرّها (وَعُيُونٍ) أي : من ماء وعسل ولبن وخمر كما قال تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد : ١٥]. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم العين والباقون بكسرها.
(وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) في هذا إعلام بأن المأكل والمشرب في الجنة بحسب شهواتهم بخلاف الدنيا فبحسب ما يجد الناس في الأغلب.
وقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) في موضع الحال من ضمير المتقين في الظرف الذي هو في ظلال أي : هم مستقرّون في ظلال مقولا لهم ذلك.
وقوله تعالى : (هَنِيئاً) حال أي : متهنئين (بِما) أي : بسبب ما (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من طاعات الله تعالى.
(إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (كَذلِكَ) أي : كما جزينا المتقين هذا الجزاء العظيم (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي : نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم وأعمالهم في الدنيا.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : يمحض لهم العذاب المخلد ضدّ النعيم المؤبد.
وقوله تعالى : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) خطاب للكفار في الدنيا (قَلِيلاً) أي : من الزمان وغايته إلى الموت وهو زمان قليل لأنه زائل مع قصر مدّته في زمن الآخرة وفي هذا تهديد لهم ، ويجوز أن يكون ذلك خطابا لهم في الآخرة إيذانا بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم ، وكانوا من أهله تذكيرا بحالهم السمجة بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد ، وهذا ما جرى عليه الزمخشري أوّلا وذكر الأول ثانيا ، واقتصر الجلال المحلي على ما ذكرته أولا وهو أولى. قال بعض العلماء : التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين ، والسعي لها من أفعال الظالمين ، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين ، والسكون فيها على حد الإذن ، والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين ، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين ، وأهل الحقيقة أجل خطرا من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.
ثم علل ذلك مؤكدا بقوله تعالى لأنّهم ينكرون وصفهم بذلك : (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) ففيه دلالة على أنّ كل مجرم يتمتع أياما قلائل ، ثم البقاء في الهلاك أبدا.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ تعذبون بإجرامكم (لِلْمُكَذِّبِينَ) حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي : لهؤلاء المجرمين من أي : قائل كان (ارْكَعُوا) أي : صلوا الصلاة التي فيها الركوع كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وأطلقوه عليها تسمية لها باسم جزئها ، وخص هذا الجزء لأنّه يقال على الخضوع والطاعة ولأنّه خاص بصلاة المسلمين (لا يَرْكَعُونَ) أي : لا يصلون ، قال الرازي : وهذا ظاهر لأنّ الركوع من أركانها ، فبين تعالى أنّ هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون ويجوز أن يكون اركعوا بمعنى اخشعوا وتواضعوا لله بقبول وحيه واتباع دينه ، واطرحوا هذا الاستكبار لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على