أو إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور. قال الشاعر (١) :
وكم لظلام الليل عندي من يد |
|
تخبر أنّ المانوية تكذب |
ولما جعل النوم موتا جعل اليقظة معاشا فقال تعالى : (وَجَعَلْنَا) أي : بما لنا من القدرة التامّة (النَّهارَ) أي : الذي آيته الشمس (مَعاشاً) أي : حياة تبعثون فيه عن نومكم ، أو وقت معاش تتقلبون فيه في حوائجكم ومكاسبكم لتحصيل ما تعيشون به فمعاشا على هذا اسم زمان.
(وَبَنَيْنا) بما لنا من الملك التامّ (فَوْقَكُمْ سَبْعاً) أي : سبع سماوات وقوله تعالى : (شِداداً) جمع شديدة أي : قوية محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان لا فطور فيها ولا فروج. ونظيره قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢].
(وَجَعَلْنا) أي : بما لنا من العظمة مما لا يقدر عليه غيرنا (سِراجاً) أي : منيرا متلألئا (وَهَّاجاً) أي : وقادا وهي الشمس.
(وَأَنْزَلْنا) أي : بما لنا من كمال الأوصاف (مِنَ الْمُعْصِراتِ) أي : السحاب إذا أعصرت أي : شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر ، كقولك : أجز الزرع أي : حان أن يجز ، وأعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض.
وعن الحسن وقتادة : هي السماوات ، وتأويله أنّ الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكأنّ السموات عصرن. وقيل : من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب. وقيل : الرياح ذوات الأعاصير ، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشىء السحاب وتدرّ أخلافه. (ماءً ثَجَّاجاً) أي : منصبا بكثرة يقال : ثجه وثج بنفسه. وفي الحديث : «أفضل الحج العج والثج» (٢) أي : رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي ، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مثجا يسيل غربا ، يعني : يثج الكلام ثجا في خطبته.
(لِنُخْرِجَ) أي : بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب (بِهِ) أي : بذلك الماء (حَبًّا) أي : نجما ذا حب مما يتقوّت به كالحنطة والشعير والأرز (وَنَباتاً) أي : ما يعتلف به كالتبن والحشيش ، كما قال تعالى : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) [طه : ٥٤](وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) [الرحمن : ١٢].
(وَجَنَّاتٍ) أي : بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره (أَلْفافاً) أي : ملتفة بالشجر جمع لفيف كشريف وأشراف. وقيل : هو جمع الجمع ، يقال : جنة لفاء وجمعها لف بضم اللام وجمع الجمع ألفاف. وقيل : لا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل : الواحد لف. قال صاحب الإقليد أنشدني الحسن بن علي الطوسي (٣) :
جنة لف وعيش مغدق |
|
وندامى كلهم بيض زهر |
وقال الزمخشري : ولو قيل : هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها.
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٢) أخرجه الترمذي في الحج حديث ٨٢٧ ، وابن ماجه حديث ٢٨٩٦ ، ٢٩٢٤ ، والدارمي في المناسك باب ٨ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٤ / ٣٣٠ ، والحاكم في المستدرك ١ / ٤٥٠.
(٣) البيت بلا نسبة في الكشاف للزمخشري ٤ / ٦٨٧.