(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي : بين الخلائق (كانَ) أي : في علم الله تعالى وفي حكمه كونا لا بدّ منه (مِيقاتاً) أي : وقتا للثواب والعقاب ، أو وقتا توقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق.
وقوله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي : القرن بدل من يوم الفصل أو بيان له ، والنافخ إسرافيل عليهالسلام أو من أذن الله تعالى له في ذلك (فَتَأْتُونَ) أي : بعد القيام من القبور إلى الموقف (أَفْواجاً) أي : جماعات مختلفة.
وعن معاذ أنه سأل عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه باكيا ، وقال : تحشر عشرة أصناف من أمّتي ، بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عميا ، وبعضهم صما بكما ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم ، يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.
ثم فسر هؤلاء بقوله : فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني : النمام ، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت ، وأما المنكبون على وجوههم فأكلة الربا ، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم ، وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم ، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم فعلهم ، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران ، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، وأما الذين أشدّ نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى في أموالهم ، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» (١) ا. ه. وقد تكلم في صحة هذا الحديث نعوذ بالله تعالى من هؤلاء ونسأله التوفيق لنا ولأحبابنا ، فإنه كريم جواد لا يردّ من سأله.
(وَفُتِحَتِ السَّماءُ) أي : شققت لنزول الملائكة (فَكانَتْ أَبْواباً) فإن قيل : هذه الآية تقتضي أنّ السماء بجملتها تصير أبوابا؟ أجيب بوجوه أوّلها : أنّ تلك الأبواب لما كثرت صارت كأنها ليست إلا أبوابا مفتحة ، كقوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] كأنّ كلها عيون تتفجر. ثانيها : أنه على حذف مضاف ، أي : فكانت ذات أبواب. ثالثها : أن الضمير في قوله تعالى : (فَكانَتْ أَبْواباً) يعود إلى مضمر ، والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبوابا ، وقيل : الأبواب الطرق والمسالك أي : تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقا لا يسدها شيء ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف التاء بعد الفاء والباقون بتشديدها.
(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) أي : ذهب بها عن أماكنها (فَكانَتْ سَراباً) أي : لا شيء كما أنّ السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء ، قال الرازي : إنّ الله تعالى ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة ويمكن الجمع بينها بأن نقول أول أحوالها الاندكاك وهو قوله تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤] والحالة الثانية : أن تصير كالعهن المنفوش وهو قوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] والحالة الثالثة : أن تصير كالهباء وهو قوله تعالى :
__________________
(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٩ / ١٧٥.