الثاني : في حكمة قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) هي أنهم إذا وجدوا منهم التكبر المقتضي إلى إحباط العمل جعل نفسه خيرا منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم ، وقال : أنا خير منه فصار هو خيرا منه. ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى (يَكُونُوا) أي يصيروا فإنّ من استحقر إنسانا لفقره أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويقوى الضعيف (وَلا تَلْمِزُوا) أي تعيبوا على وجه الخفية (أَنْفُسَكُمْ) بأن يعيب بعضكم بعضا بإشارة أو نحوها فكيف إذا كان على وجه الظهور فإنّكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة أو يعمل الإنسان ما يعاب به فيكون الإنسان قد لمز نفسه أو يلمز غيره فيكون لمزه له سببا لأن يبحث عن عيوبه فيلمزه فيكون هو الذي لمز نفسه (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي : ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء فإنّ النبز يختص بلقب السوء. واختلف في هذا اللقب فقال عكرمة هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر. وقال الحسن : كان اليهوديّ والنصرانيّ يسلم فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك. وقال عطاء : هو أن يقول الرجل لأخيه يا حمار يا خنزير.
وعن ابن عباس : التنابز بالألقاب : هو أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله والحاصل أنه يحرم تلقيب الشخص بما يكره وإن كان فيه كالأعور والأعمش ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لا يعرفه إلا به وأمّا ألقاب المدح فنعما هي فقد لقب الصديق بعتيق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بن الوليد بسيف الله ، وما زالت الألقاب الحسنة في الجاهلية والإسلام.
قال الزمخشري : إلا ما أحدثه الناس في زماننا من التوسع حتى لقبوا السفلة بالألقاب العلية وهب أنّ العذر مبسوط فما أقول لمن ليس من الدين في قبيل ولا دبير بفلان الدين لعمري والله إنها الغصة التي لا تساغ. ومعنى اللقب : اسم زائد على الاسم يشعر بضعة المسمى أو رفعته والمقصود به الشهرة فما كان مكروها نهى عنه ، ويسنّ أن يكنى أهل الفضل الرجال والنساء وإن لم يكن لهم ولد وأمّا التكني بأبي القاسم فهو حرام.
وقيل : إنما يحرم في زمانه صلىاللهعليهوسلم فقط وقيل : إنما يحرم على من اسمه محمد ولا يكنى كافر ولا فاسق ولا مبتدع لأنّ الكنية للتكرمة وليسوا من أهلها بل أمرنا بالإغلاظ عليهم إلا لخوف فتنة من ذكره باسمه أو تعريفه كما قيل به في قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] واسمه عبد العزى ولا بأس بكنية الصغير. ويسنّ أن يكنى من له أولاد بأكبر أولاده ويسنّ لولد الشخص وتلميذه وغلامه أن لا يسميه باسمه والأدب أن لا يكني الشخص نفسه في كتاب أو غيره إلا إن كان لا يعرف بغيرها أو كانت أشهر من الاسم.
تنبيه : ذكر في الآية ثلاثة أمور مرتبة بعضها دون بعض كما علم من تقريرها (بِئْسَ الِاسْمُ) أي المذكور من السخرية واللمز والتنابز. وقوله تعالى : (الْفُسُوقُ) أي : الخروج من ربقة الدين (بَعْدَ الْإِيمانِ) بدل من الاسم لإفادة أنه فسق لتكرّره عادة. وروي أنّ الآية «نزلت في صفية بنت حيي أتت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : إنّ النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال : هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلىاللهعليهوسلم» (١)(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) أي : يرجع عما نهى الله عنه فخفف
__________________
(١) أخرجه بنحوه الترمذي في المناقب حديث ٣٨٩٤.