على نفسه ما كان شدّد عليها (فَأُولئِكَ) أي : البعداء من الله تعالى (هُمُ الظَّالِمُونَ) أي الغريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها. وأدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء. واختلف عن خلاد والباقون بالإظهار.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : اعترفوا بالإيمان وإن كانوا في أوّل مراتبه (اجْتَنِبُوا) أي : كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم (كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) أي : في الناس وغيرهم واحتاطوا في كل ظنّ ولا تتمادوا معه حتى تجزموا بسببه.
تنبيه : أفهم ذلك أنّ من الظنّ ما لا يجتنب كما في الاجتهاد حيث لا قاطع وكما في ظنّ الخير في الله تعالى : ففي الحديث «أنا عند ظنّ عبدي بي فلا يظنّ بي إلا خيرا» (١) بل قد يجب كما في قوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور : ١٢] وقيل : نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما. «وذلك أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا غزا أو سافر ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدّم لهما إلى المنزل فيهيء لهما طعامهما وشرابهما فضمّ سلمان الفارسيّ إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدّم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فلم يهيىء لهما فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئا ، قال : لا غلبتني عيناي ، قالا له : انطلق إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاطلب لنا منه طعاما فجاء سلمان إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم : وسأله طعاما فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له : إن كان عندك فضل من طعام فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلى رحله فأتاه فقال : ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا : كان عند أسامة ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا فلما رجع قالا له : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما جاءا رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما. قال ظلتم تأكلون لحم أسامة وسلمان فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ)(٢).
وقوله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) تعليل مستأنف للأمر قال صلىاللهعليهوسلم : «إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث» (٣) والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه وجعل الزمخشري همزه بدلا من واو قال : لأنه يتم الأعمال أي يكسرها قال ابن عادل : وهذا غيره مسلم بل تلك مادّة أخرى.
قال سفيان الثوري : الظنّ ظنان : أحدهما : إثم وهو أن يظنّ ويتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن يظنّ ولا يتكلم به. وقوله تعالى (وَلا تَجَسَّسُوا) حذف منه إحدى التاءين أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعائبهم بالبحث عنها قال صلىاللهعليهوسلم : «لا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» (٤) وقال عليه الصلاة والسلام : «يا معشر من آمن بلسانه ولم»
__________________
(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٥٠٥ ، ومسلم في الذكر حديث ٢٦٧٥ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٨٨ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٨٢٢.
(٢) انظر البغوي في تفسيره ٤ / ٢٦١ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٢٥٤.
(٣) أخرجه البخاري في النكاح حديث ٥١٤٣ ، ومسلم في البر حديث ٢٥٦٣.
(٤) هو تتمة الحديث رقم ٥١٤٣ عند البخاري ، ومسلم رقم ٢٥٦٣.