أي : يطيعه. فمعنى بررة مطيعين صادقين لله تعالى في أعمالهم.
ولما ذكر تعالى ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب عباده المؤمنين من ذلك فقال سبحانه : (قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي : لعن الكافر ، وقوله تعالى : (ما أَكْفَرَهُ) استفهام توبيخ ، أي : ما أشدّ تغطيته للحق وجحده له وعناده فيه لإنكاره البعث وإشراكه بربه وغير ذلك مما حمله على الكفر.
وقوله تعالى : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) استفهام تقرير.
ثم بينه بقوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ) أي : ماء يسير جدّا لا من غيره. (خَلَقَهُ) أي : أوجده مقدّرا على ما هو عليه من التخطيط (فَقَدَّرَهُ) أي : علقة ثم مضغة إلى آخر خلقه فكأنه قيل : وأي سبب في هذا الترفع مع أنّ أوّله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بين الوقتين حامل عذرة ، فإنّ خلقة الإنسان تصلح أن يستدل بها على وجود الصانع ؛ لأنه يستدل بها على أحوال البعث والحشر. قيل : نزلت في عتبة بن أبي لهب والظاهر العموم.
فإن قيل : الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز فالقادر على الكل كيف يليق به ذلك ، والتعجب أيضا إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء ، فالعالم به كيف يليق به ذلك؟ أجيب : بأنّ ذلك ورد على أسلوب كلام العرب لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب حيث أتوا بأعظم القبائح. كقولهم إذا تعجبوا من شيء : قاتله الله ما أحسنه ، وأخزاه الله ما أظلمه ، والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا.
وقيل : الاستفهام استفهام تحقير له فذكر أوّل مراتبه وهو قوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) ولا شك أنّ النطفة شيء حقير مهين ، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر وقوله تعالى : (فَقَدَّرَهُ) أي : أطوارا وقيل : سوّاه كقوله تعالى : (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) [الكهف : ٣٧] أو قدّر كل عضو في الكيفية والكمية بالقدر اللائق لمصلحته كقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢].
ثم ذكر المرتبة الوسطى بقوله تعالى : (ثُمَ) بعد انتهاء المدّة (السَّبِيلَ) أي : طريق خروجه من بطن أمّه (يَسَّرَهُ) أي : سهل له أمره في خروجه بأن فتح له الرحم وألهمه الخروج منه ، ولا شك أنّ خروجه من أضيق المسالك من أعجب العجائب يقال : إنه كان رأسه في بطن أمّه من فوق ورجلاه من تحت ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام المراد ، ومنه قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] أي : التمييز بين الخير والشرّ.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سبيل الشقاء والسعادة. وقال ابن زيد : سبيل الإسلام. قال أبو بكر بن طاهر : يسر على كل أحد ما خلقه له وقدر عليه لقوله صلىاللهعليهوسلم : «كل ميسر لما خلق له» (١). ثم ذكر المرتبة الأخيرة بقوله تعالى : (ثُمَّ أَماتَهُ) وأشار إلى إيجاب المبادرة بالتجهيز بالفاء المعقبة في قوله تعالى : (فَأَقْبَرَهُ) أي : جعله في قبر يستره إكراما له ، ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض تأكله الطير وغيرها.
__________________
(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٥٥١ ، ومسلم في القدر حديث ٢٦٤٩ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٠٩.