أجريت القصة. قال الرازي : ومعلوم أنّ العمل لا يمكن إحضاره فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها ، أو ما أحضرته عند المحاسبة وعند الميزان من آثار تلك الأعمال. وعن ابن مسعود : أنّ قارئا قرأها عنده ، فلما بلغ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قال : واقطع ظهراه.
(فَلا أُقْسِمُ) لا مزيدة ، أي : أقسم (بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمرّيخ والزهرة وعطارد تخنس بضم النون ، أي : ترجع في مجراها وراءها بينا نرى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعا إلى أوّله ، وتكنس بكسر النون تدخل في كناسها ، أي : تغيب في المواضع التي تغيب فيها فخنوسها رجوعها ، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل : هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل ، أي : تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها.
(وَاللَّيْلِ) أي : الذي هو محل ظهور النجوم وزوال خنوسها وذهاب كنوسها (إِذا عَسْعَسَ) قال البغوي : قال الحسن : أقبل بظلامه. وقال آخرون : أدبر ، تقول العرب عسعس الليل وسعسع إذا أدبر ، ولم يبق منه إلا القليل.
(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي : امتدّ حتى يصير نهارا بينا ، يقال للنهار إذا زاد تنفس ، ومعنى التنفس : خروج النسيم من الجوف ، وفي كيفية المجاز قولان : الأوّل : أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم ، فجعل ذلك نفسا له على المجاز ، فقيل : تنفس الصبح. الثاني : أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي حبس بحيث لا يتحرّك ، فإذا تنفس وجد راحة فهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن ، فعبر عنه بالتنفس.
وقوله تعالى : (إِنَّهُ) أي : القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هو المقسم عليه ، والمعنى : إنه لقول رسول عن الله تعالى كريم على الله تعالى ، أي : انتفت عنه وجوه المذامّ كلها ، وثبت له وجوه المحامد كلها ، وهو جبريل عليهالسلام. وأضاف الكلام إليه لأنه قاله عن الله عزوجل.
(ذِي قُوَّةٍ) أي : شديد القوى. روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال : من قوّته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها ، وأبصر إبليس يكلم عيسى عليهالسلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، ويهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف.
(عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) أي : الملك الأعلى المحيط عرشه بجميع الأكوان الذي لا عند في الحقيقة إلا له ، وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى : (مَكِينٍ) أي : ذي مكانة متعلق به عند ، أي : ذي منزلة ومكانة ليس عندية جهة بل عندية إكرام وتشريف كقوله تعالى : «أنا عند المنكسرة قلوبهم» (١) وقيل : قويّ في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها.
(مُطاعٍ ثَمَ) أي : في السموات. قال الحسن : فرض الله تعالى على أهل السموات طاعة جبريل عليهالسلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد صلىاللهعليهوسلم ، قال ابن عباس : «من طاعة جبريل عليهالسلام الملائكة أنه لما أسري بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم قال جبريل عليهالسلام لرضوان خازن
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٢٩٠ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ١١٧ ، ٣٧٦ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٢٣٤ ، ٤٤٩.