الله صلىاللهعليهوسلم المدينة وبها رجل يعرف بأبي جهينة ، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت.
وقيل : كان أهل المدينة تجارا يطففون ، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت. وعن عليّ أنه مرّ برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له : أقم الوزن بالقسط ، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت كأنه أمر بالتسوية أوّلا ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس : إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان ، وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعا وكانا مفرّقين في الحرمين ، كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون. وعن ابن عمر أنه كان يمرّ بالبائع فيقول : اتق الله وأوف الكيل ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى أنّ العرق يلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وعن عكرمة أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار فقيل له : إن ابنك كيال أو وزان فقال : أشهد أنه في النار. وعن أبيّ : لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين.
ثم بين تعالى المطففين من هم بقوله تعالى : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا) أي : عالجوا الكيل (عَلَى النَّاسِ) أي : كائنين من كانوا لا يخافون شيئا ، ولا يراعون أحدا بل صارت الخيانة والوقاحة لهم ديدنا (يَسْتَوْفُونَ) أي : إذا كالوا منهم وأبدل على مكان من للدلالة على أن اكتيالهم من الناس اكتيال يضرهم ويتحامل فيه عليهم ، ويجوز أن يتعلق على ب (يَسْتَوْفُونَ) ويقدّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية ، أي : يستوفون على الناس خاصة ، وأمّا أنفسهم فيستوفون لها. وقال الفراء : من وعلى يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه ، فإذا قال : اكتلت عليك فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قال : اكتلت منك فكقوله : استوفيت منك.
(وَإِذا كالُوهُمْ) أي : كالوا للناس أي : حقهم ، أي : مالهم من الحق (أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي : وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل ، كما قال القائل (١) :
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا |
|
ولقد نهيتك عن بنات الأوبر |
وقال آخر : والحريص يصيدك لا الجواد. بمعنى جنيت لك ويصيد لك ويقال : وزنتك حقك ، وكلتك طعامك ، أي : وزنت لك وكلت لك ، ونصحتك ونصحت لك ، وكسبتك وكسبت لك والأكمؤ جمع كمأة ، والعساقل ضرب منها ، وأصله : عساقيل لأنّ واحدها عسقول كعصفور فحذفت الياء للضرورة ، وبنات أوبر ضرب من الكمأة رديء.
(يُخْسِرُونَ) جواب إذا ، وهو يتعدى بالهمزة. يقال : خسر الرجل وأخسرته أنا مفعوله محذوف ، أي : يخسرون الناس متاعهم. وقيل : يخسرون أي : ينقصون بلغة فارس أي : ينقصون الكيل أو الوزن.
وقوله تعالى : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) أي : الأخساء البعداء الأراذل (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ) أي : لأجله أو فيه ، وزاد التهويل بقوله تعالى : (عَظِيمٍ) إنكارا وتعجيبا من حالهم في الاجتراء على التطفيف ، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخمينا أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الاشتقاق ص ٤٠٢ ، والإنصاف ١ / ٣١٩ ، وأوضح المسالك ١ / ١٨٠ ، وجمهرة اللغة ص ٣٣١ ، والخصائص ٣ / ٥٨ ، ولسان العرب (جوت) ، (حجر) ، (سور) ، (عير) ، (وبر) ، (جحش) ، (أبل) ، (حفل) ، (عقل) ، (اسم) ، (جنى) ، (نجا).