لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب. قال مجاهد : لما قيل لهم أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا قالوا : لا قيل فكرهتموه أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا. قال الزجاج : تأويله أنّ ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك.
قال الرازي : وفي ضمير فكرهتموه وجوه : أظهرها : أن يعود إلى الأكل. وثانيها : أن يعود إلى اللحم أي : فكرهتم اللحم. وثالثها : أن يعود إلى الميت في قوله تعالى ميتا تقديره أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا متغيرا فكرهتموه فكأنه صفة لقوله ميتا ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير يعني الميتة إن أكلت في الندرة تستطاب نادرا ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلا. فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة وذلك يحقق الكراهة ويوجب النفرة إلى حدّ لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكله ففيه إذا كراهية شديدة. وكذلك حال الغيبة.
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافير من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (١) وقال ميمون بن سنان : بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي كل هذا قلت يا عبد الله ولم آكل هذا قال إنك اغتبت عبد فلان قلت والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرّا قال ولكن سمعت ورضيت فكان ميمون لا يغتاب أحدا ولا يدع أحدا يغتاب عنده.
وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بطاعته معطوف على ما تقدّم من الأوامر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله (إِنَّ اللهَ) أي : الملك الأعظم (تَوَّابٌ) أي : مكرّر للتوبة وهي الرجوع عن المعصية إلى ما كان قبلها من معاملة التائب وإن كرّر الذنب فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت (رَحِيمٌ) يزيده على ذلك بأن يكرمه غاية الإكرام.
تنبيه : ختم سبحانه وتعالى الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولى : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وقال ههنا (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً) فذكر الإثبات الذي هو قريب من الأمر. وقوله تعالى :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))
(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : كافة المؤمن وغيره (إِنَّا) أي : على ما لنا من العظمة (خَلَقْناكُمْ) أي : أوجدناكم من العدم على ما أنتم عليه من المقادير (مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الآية مبين ومقرّر لما
__________________
(١) أخرجه أبو داود في الأدب حديث ٤٨٧٨.