هداه إلى الخروج من الرحم ، ومن ذلك هدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيته وأدويته وأمور دنياه ودينه ، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض إلى معايشها ومصالحها.
يقال : إن الأفعى إذا أتى عليها ألف سنة عميت ، وقد ألهمها الله تعالى أن تمسح عينيها بورق الرازيانج الغض فيردّ إليها بصرها ، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة على طولها وعماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها ، فتحك بها عينيها فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
وقيل : (فَهَدى) أي : دلهم بأفعاله على توحيده ، وكونه عالما قادرا ، والاستدلال بالخلق والهداية معتمد الأنبياء ، قال إبراهيم عليهالسلام (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] وقال موسى عليهالسلام لفرعون : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠].
ولما ذكر سبحانه ما يختص بالناس اتبعه ما يختص بالحيوان فقال تعالى : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي : أنبت ما ترعاه الدواب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المرعى الكلأ الأخضر.
(فَجَعَلَهُ) أي : بعد أطوار من زمن إخراجه بعد خضرته (غُثاءً) أي : جافا هشيما (أَحْوى) أي : أسود يابسا. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون أحوى حالا من المرعى أي : أخرجه أحوى أي : أسود من شدّة الخضرة والري فجعله غثاء بعد حويه.
وقال ابن زيد : هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ولذهاب الدنيا بعد نضارتها.
وقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) بشارة من الله تعالى لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم بإعطاء آية بينة ، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه ، فهو نفي أخبر الله تعالى أنّ نبيه صلىاللهعليهوسلم لا ينسى. وقيل : نهي ، والألف مزيدة للفاصلة كقوله تعالى : (السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧] أي : فلا تفعله كرامة ، وتكريره لئلا ينساه ، ومنعه مكي لأنه لا ينهى عما ليس باختياره. وأجيب : بأنّ هذا غير لازم ؛ إذ المعنى : النهي عن تعاطي أسباب النسيان وهو شائع. قال الرزاي : وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين.
الأوّل : أنه كان رجلا أمّيا فحفظه لهذا الكتاب المطوّل من غير دراسة ولا تكرار خارق للعادة فيكون معجزا.
الثاني : أنّ هذه السورة من أول ما نزل بمكة ، فهذا إخبار عن أمر عجيب مخالف للعادة سيقع في المستقبل ، وقد وقع فكان هذا إخبارا ، فيكون معجزا.
في المشيئة في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي : الملك الذي له الأمر كله وجوه : أحدها : التبرّك بهذه الكلمة كقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ـ ٢٤] فكأنه تعالى يقول : إني عالم بجميع المعلومات ، وعالم بعواقب الأمور على التفصيل ، ومع ذلك لا أخبر بوقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة ، فأنت وأمّتك يا أشرف الخلق أولى بها.
ثانيها : قال الفرّاء : إنه تعالى ما شاء أن ينسي محمدا صلىاللهعليهوسلم شيئا ؛ إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى يصيره ناسيا لذلك لقدر عليه كقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك. ونظيره قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَ