الكرامة والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته. وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في عتبة ابن ربيعة. وقيل : أبي بن خلف. فإن قيل : كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقتيره ابتلاء؟ أجيب : بأن كل واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر ، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع فالحكمة فيهما واحدة ، ونحوه قوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥]. فإن قيل : هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه كما قال فأكرمه ونعمه؟ أجيب : بأن البسط إكرام من الله تعالى لعبده بإنعامه عليه متفضلا من غير سابقة ، وأما التقتير فليس بإهانة له لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ولكن تركا للكرامة ، وقد يكون المولى مكرما ومهينا وغير مكرم ولا مهين. وإذا أهدى لك زيد هدية قلت : أكرمني بالهدية ، ولا تقول أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد إليك. فإن قيل : قد قال تعالى فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته ثم أنكر قوله : (رَبِّي أَكْرَمَنِ) وذمّه عليه كما أنكر قوله : (أَهانَنِ) وذمه عليه؟ أجيب : بوجهين :
أحدهما : إنما أنكر قوله : (رَبِّي أَكْرَمَنِ) وذمه عليه لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله تعالى عليه وأثبته ، وهو قصده إلى أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراما مستحقا ومستوجبا على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم كقوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨] وإنما أعطاه الله تعالى على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ، ولا سابقة مما لا يعتد الله تعالى إلا به ، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها.
ثانيهما : أن ينساق الإنكار والذم إلى قوله : (رَبِّي أَهانَنِ) يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه ، وإذا لم يتفضل عليه يسمي ترك التفضل هوانا وليس بهوان. قال الزمخشري : ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله تعالى : (فَأَكْرَمَهُ) وقرأ (مَا ابْتَلاهُ) في الموضعين حمزة بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ، وقرأ (رَبِّي أَكْرَمَنِ رَبِّي أَهانَنِ) نافع بإثبات الياء فيهما وصلا لا وقفا ، وقرأ البزي بإثباتها فيهما وقفا ووصلا ، وعن أبي عمرو فيهما في الوصل الإثبات والحذف عنه في الوصل أعدل ، والباقون بالحذف وقفا ووصلا. وقرأ ابن عامر (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) بتشديد الدال والباقون بتخفيفها ، وهما لغتان معناهما ضيق. وقيل : قدّر بمعنى قتر وقدر أعطاه ما يكفيه.
ثم ردّ الله تعالى على من ظن أنّ سعة الرزق إكرام وأنّ الفقر إهانة بقوله تعالى : (كَلَّا ،) أي : ليس الإكرام بالغنى والإهانة بالفقر إنما هما بالإطاعة والمعصية ، وكفار مكة لا ينتبهون لذلك (بَلْ) لهم فعل أشر من هذا القول وهو أنهم (لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) أي : لا يحسنون إليه مع غناهم ، أو لا يعطونه حقه من الميراث. قال مقاتل : كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه فنزلت : (وَلا تَحَاضُّونَ) أي : يحثون حثا عظيما (عَلى طَعامِ ،) أي : إطعام (الْمِسْكِينِ) فيكون اسم مصدر بمعنى الإطعام ، ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي : على بذل أو على إعطاء ، وفي إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغنيّ في ماله بقدر الزكاة.
(وَيَأْكُلُونَ) على سبيل التجدد والاستمرار (التُّراثَ ،) أي : الميراث والتاء في التراث بدل من واو لأنه من الوراثة.