(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(١). وعن جابر قال : «جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، أو فيما يستقبل؟ قال : «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال : ففيم العمل؟ قال : اعملوا وكل ميسر لما خلق له» (٢).
واختلف في جواب القسم فأكثر المفسرين على أنه : (قَدْ أَفْلَحَ ،) أي : ظفر بجميع المرادات ، والأصل : لقد وإنما حذفت لطول الكلام. وقيل : إنه ليس بجواب وإنما جيء به تابعا لقوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء ، والجواب محذوف تقديره : ليدمدمن الله عليهم ، أي : أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما دمدم على ثمود ؛ لأنهم قد كذبوا صالحا أو لتبعثن وقيل : هو على التقديم والتأخير من غير حذف.
والمعنى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ،) أي : طهرها من الذنوب ونماها وأصلحها ، وصفاها تصفية عظيمة مما يسره الله تعالى له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة (وَقَدْ خابَ ،) أي : خسر (مَنْ دَسَّاها ،) أي : أغواها إغواء عظيما أو أفسدها وأهلكها بخبائث الاعتقادات ، ومساوئ الأعمال وقبائح السيئات. (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) وفاعل زكاها ودساها ضمير من ، وقيل : ضمير الباري سبحانه ، أي : قد أفلح من زكاها بالطاعة ، (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ،) أي : خسرت نفس دساها الله تعالى بالمعصية. وأنكر الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه ، ولكن قال بعض المفسرين : الحق أنه خلاف الظاهر لا كما قاله الزمخشري. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : خابت نفس أضلها الله تعالى وأغواها ، وأصل الزكاة النموّ والزيادة ، ومنه زكى الزرع إذا كثر ريعه ، ومنه تزكية القاضي الشاهد ؛ لأنه يرفعه بالتعديل. وأصل دساها دسسها من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء فأبدل من السين الثانية ياء ، والمعنى : أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية ، وعن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهمّ» (٣). وفي رواية : «والهرم وعذاب القبر اللهمّ آت نفسي تقواها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن دعوة لا يستجاب لها» (٤).
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ) وهم قوم صالح ، كذبوا رسولهم صالحا عليهالسلام وأنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم ؛ لأنّ كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم (بِطَغْواها ،) أي : أوقعت التكذيب لرسولها بكل ما أتى به عن الله تعالى ، أي : طغيانها. وقيل : إن الباء للاستعانة. قال الزمخشري : مثلها في كتبت بالقلم. والطغوى من الطغيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوا في الاسم ، وتركوا القلب في الصفة ، فقالوا : امرأة خزيا وصديا ، يعني : فعلت
__________________
(١) انظر البغوي في تفسيره ٥ / ٢٥٩.
(٢) تقدم الحديث مع تخريجه.
(٣) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٨٢٣ ، ومسلم في الذكر حديث ٢٧٠٦ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٥٤٠ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤٨٤ ، والنسائي في الاستعاذة حديث ٥٤٤٨.
(٤) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٣٧١ ، ٦ / ٢٠٩.